الكارثة الإنسانية في السودان: أرقام بلا مشاعر أم أزمة منسية؟
وفقًا لأحدث البيانات التي أصدرتها الأمم المتحدة، بلغ عدد النازحين السودانيين 10 ملايين نازح، وقد وصفته المنظمة بأنه أكبر أزمة نزوح في التاريخ. وقد توفي أكثر من 61 ألف شخص في الخرطوم فقط بين أبريل 2023 ويونيو 2024، مما يمثل زيادة بنسبة 50% عن معدل الوفيات السابق على نشوب الحرب.
في آخر إحصائيات الأضرار الناجمة عن الأزمات المستمرة منذ حوالي 19 شهراً في السودان، كشف تقرير من “كلية لندن للصحة والطب الاستوائي” عن أرقام مروعة للوفيات، حيث كانت الغالبية العظمى ناتجة عن الأمراض والجوع. وأوضح التقرير المنشور على الموقع الرسمي للكلية أن أكثر من 61,000 شخص قد لقوا حتفهم في الخرطوم وحدها خلال الفترة من نيسان/أبريل 2023 إلى حزيران/يونيو 2024، مما يعكس زيادة بنسبة 50% في معدل الوفيات مقارنة بالفترة قبل الحرب.
أشار التقرير إلى تسجيل 26.000 حالة وفاة نتيجة للعنف المرتبط بالحرب، وهو رقم يتجاوز الإحصاءات السابقة التي تحدثت عن 20.178 حالة وفاة بسبب العنف في جميع أنحاء السودان. بينما كانت الـ 35.000 حالة وفاة نتيجة إما للجوع أو لنقص الخدمات الطبية.
لا نجاة من الرصاص إلا جوعاً ومرضاً
لا يتوقف موت السودانيين لحظة، ليس فقط بسبب القصف المدفعي العشوائي أو الطيران، ولكن أيضاً بسبب الهجمات المباشرة لعناصر “قوات الدعم السريع”.
لا يزال سكان منطقة “الهلالية” في شرق ولاية “الجزيرة” وسط السودان يواجهون الموت يومياً جراء حصار “قوات الدعم السريع” التي تنفذ حملات انتقامية في هذه المناطق، بعد انشقاق قائدها وانضمامه إلى الجيش قبل حوالي شهر. وقد وثقت منظمات محلية تتابع جرائم وانتهاكات “قوات الدعم السريع” أكثر من 300 حالة وفاة، بالإضافة إلى حالات القتل بالرصاص. وتتفاوت الروايات حول أسباب هذه الوفيات، حيث يُنسب بعضها إلى التسمم الغذائي الناتج عن استهلاك “حبوب التقاوي” المخصصة للزراعة، بينما تُعزى أخرى إلى انتشار وباء “الكوليرا” وغياب الرعاية الصحية والأدوية، مما جعل المنطقة تتحول إلى بؤرة موت، حيث لم تعد التعازي تتعلق بالشخص الواحد بل وصلت إلى التعازي الجماعية. صفحات وسائل التواصل الاجتماعي مليئة بتعازي أسر كاملة، لم يتبقَ منها إلا الأطفال.
أما الوضع المعيشي بشكل عام، فقد أصبح أكثر بؤسًا مما نشاهده في الأفلام التي تمثل نهاية العالم. وهنا لا نتحدث عن النازحين فقط، بل يمكن القول إن جميع السودانيين يعيشون الآن على حافة العدم، بسبب فقدان الموارد وتوقف الرواتب الشهرية لفئات واسعة. وحتى الرواتب التي لا تزال قائمة لم تعد تكفي لتلبية احتياجات أسبوع واحد، حيث ارتفع التضخم في الشهر الماضي بنسبة 211%. وفي نفس الوقت، فإن المدخرات إما نفدت أو تم استيلاء عناصر “قوات الدعم السريع” عليها.
لم يعد من المستغرب توقف المطابخ الجماعية التي تقدم الطعام لآلاف السودانيين، سواء في مناطقهم الأصلية أو بين النازحين، والتي تديرها “غرف الطوارئ المحلية” التي تشكلت بعد الأسابيع الأولى من حرب 15 نيسان/أبريل. كما لم يعد هناك أي استغراب من قراءة المناشدات اليومية التي تتحدث عن عائلات قضت يومين من دون طعام، والتي تُنشر باستمرار على منصات التواصل الاجتماعي بحثاً عن متبرع يقدم كميات بسيطة من الدقيق أو الأرز.
الوضع في المراكز الجديدة التي تستضيف نازحي شرق “ولاية الجزيرة” بعد الهجمات الانتقامية الأخيرة لـ “قوات الدعم السريع” يتدهور بشكل ملحوظ. أصبح توزيع الطعام يشبه توزيع الجرعات من دواء نادر. تعتمد جميع هذه المبادرات بشكل أساسي على الجهود المجتمعية، والتي تعرضت هي الأخرى للاهتزاز نتيجة تزايد الحاجة واستمرار الحرب لفترة طويلة، وزيادة أعداد النازحين. وفي بعض المناطق المحاصرة في “الفاشر” بشمال “دارفور”، أظهرت تقارير صحفية اصطفاف النساء أمام “معاصر الزيوت” للحصول على “الأمباز” (وهو بقايا عصر السمسم أو الفول السوداني ويستخدم كعلف للأبقار) لإطعام أطفالهن.
في جنوب “كردفان”، التي تتقاسم السيطرة عليها “الحركة الشعبية” بقيادة “عبد العزيز الحلو” والجيش السوداني، بالإضافة إلى وجود سيطرة محدودة لـ”قوات الدعم السريع” في بعض المناطق، توفي العشرات من الأطفال بسبب سوء التغذية المستمر، حسب ما أفادت به جمعيات محلية.
تسري الحالة بمستويات متنوعة على جميع مناطق النزوح أو تلك التي فضّل سكانها البقاء تحت نيران المعارك، نتيجة لعدم قدرتهم الاقتصادية على التنقل وتحمل تكاليفه المرتفعة، بالإضافة إلى مصاريف إيجار العقارات خارج العاصمة الخرطوم. هؤلاء الذين اختاروا النيران بدلاً من جحيم النزوح. وإلى جانب فقرهم، يعيشون تحت وطأة التصنيف الجنوني والتخوين السخيف، لمجرد أنهم قرروا البقاء في منازلهم في مناطق سيطرة “قوات الدعم السريع”.
إخلاء مسؤولية!
كان لسيطرة “قوات الدعم السريع” على معظم مناطق إقليم “دارفور” تأثير كبير على المستوى الغذائي لسكان هذه المناطق، حيث تعطلت أجزاء واسعة من المشاريع الزراعية نتيجة الأوضاع الأمنية أو صعوبة وارتفاع تكاليف المدخلات الإنتاجية والوقود. ومن واجب الجيش أن يقدم الحماية الكاملة لولاية “الجزيرة” التي تحتوي على أكبر مشروع زراعي في المنطقة، على الرغم من الأضرار التي لحقت بها خلال سنوات حكم “البشير”، إلا أنها كانت قادرة على الصمود. ويمكن القول بوضوح إن انسحاب الجيش من ولاية “الجزيرة” وتوفير الفرصة لسيطرة “قوات الدعم السريع” كان نقطة تحول في هذه الحرب، ليس فقط من الناحية العسكرية والأمنية، بل أيضاً اقتصادياً واجتماعياً.
عقب سيطرة “قوات الدعم السريع” على “الولاية الوسطية” الهامة في نهاية العام الماضي، والذي تزامن مع موسم الحصاد، توقفت عمليات حصاد المحاصيل بشكل واسع، مما أثر على الموسم الذي يليه، ثم الذي يليه. سكان “الجزيرة” الذين اعتادوا على الاعتماد على أنفسهم وتخزين ما يكفيهم حتى الموسم القادم، لم تترك لهم عناصر “قوات الدعم السريع” حتى حبة قمح واحدة، حيث صادرت كل المخازن بما في ذلك “التقاوي”.
رغم أن سقوط ولاية “الجزيرة” تسبب في الكثير من الكوارث، إلا أن الجيش أهمل الحفاظ على مناطق رئيسية كانت تعتبر المدخل نحو الجنوب الشرقي للبلاد، الذي يتميز بغناه بالإنتاج الزراعي، مما ساعد “قوات الدعم السريع” على التمدد بسهولة إلى ولاية “سنار”. ونتيجة لذلك، تعطلت المشاريع الزراعية الرئيسية في تلك المناطق، وصولاً إلى حدود ولاية “النيل الأزرق” المجاورة لـ”إثيوبيا”، قبل أن يتمكن الجيش مؤخراً من استعادة مساحات واسعة من ولاية “سنار”.
منذ اندلاع الحرب في السودان العام الماضي، تراجع الجيش السوداني بشكل كامل عن مسؤولياته تجاه الشعب. فلم يكتفِ بالتخلي عن الواجب في تقديم الحماية، والذي أشار إلى تملصه منه منذ الساعات الأولى، بل أيضاً ألغى عبر حكومته واجب تقديم الرعاية والإيواء لملايين النازحين، الذين يعيشون في ظروف تفوق الخيال، ولا يزالون يعانون.
منذ بداية موجات النزوح، استقر النازحون في مباني المدارس والمرافق العامة التي توقفت عن الخدمة. ومع امتداد “قوات الدعم السريع”، زادت أعداد النازحين وتكدست مراكز الإيواء، حتى أصبح الناس يلتمسون الظل تحت الأشجار كملاذ لهم. في هذه الظروف المأساوية، شهدت البلاد فصل الصيف ثم موسم الأمطار، ومع نهاية العام بدأ فصل الشتاء، مما زاد من تراجع الأمل في تحقيق أي تقدم نحو وقف إطلاق النار. ورغم وجود أمل في أن يتخذ “مجلس الأمن الدولي” قراراً بوقف إطلاق النار، إلا أن “الفيتو” الروسي حال دون ذلك.
أبسط ما يطلبه النازحون هو إقامة مخيمات تسهل عليهم الحياة، حتى ولو بشكل بسيط، مع توفير الغذاء والدواء. لكن الحكومة العسكرية تتجاهل ذلك كأن الأمر لا يعنيها، رغم قدرتها على فعل شيء. كما أنها لا تتردد في مطالبة المواطنين بدعم العمليات العسكرية مالياً، في وقت لا توجد فيه عمليات عسكرية تذكر، بينما تتزايد أعداد النازحين من ولايتي “الجزيرة” و”الفاشر” في شمال “دارفور”. ووفقاً لآخر إحصائيات الأمم المتحدة، فقد بلغ عدد النازحين السودانيين 10 ملايين، مما وصفته الأمم المتحدة بأنه أكبر أزمة نزوح في التاريخ.
عندما نناقش الجوع أو نقص الأغذية في مناطق مثل “الجزيرة” و”دارفور” وجنوب “كردفان”، فإننا نشير إلى المناطق الرئيسية التي تنتج المحاصيل الزراعية، والتي كانت كافية لتلبية احتياجات هذه المناطق بالإضافة إلى أجزاء كبيرة من السودان.
القلق الحالي هو أن تتحول هذه المأساة الإنسانية إلى مجرد أرقام، وأن يتعود الناس على هذا الحصاد اليومي من الموت، مكتفين بتقديم العزاء.