تسريبات

الفيلم الذي هزّ أنقرة: التدخلات التركية في السودان تحت المجهر


منذ عقود ظل السودان حاضرًا في الحسابات الاستراتيجية لتركيا. ليس فقط بحكم موقعه الجغرافي على البحر الأحمر وامتداده الإفريقي الحيوي. بل أيضًا بما يمثله من ثروات طبيعية ومجال جيوسياسي مفتوح للمنافسة الدولية. فأنقرة، التي لطالما سعت إلى إعادة إنتاج نفوذها في مناطق نفوذ الدولة العثمانية القديمة، وجدت في السودان بوابة طبيعية لمدّ نفوذها نحو إفريقيا وشرقها تحديدًا. وقد أخذ هذا الطموح بعدًا أوضح خلال العقدين الأخيرين. حيث لم تقتصر العلاقات التركية السودانية على الجانب الاقتصادي أو التنموي، بل تحولت تدريجيًا إلى أداة سياسية وأمنية تتجاوز حدود التعاون التقليدي.

فبعد أن طرحت تركيا مشاريع كبرى للاستثمار في الزراعة والبنية التحتية، اتضح أن خلف هذه المشاريع أجندة توسعية تسعى إلى تحقيق نفوذ استراتيجي طويل المدى. وجاءت ذروة هذه الأطماع في صفقة جزيرة “سواكن”. التي أثارت جدلاً واسعًا باعتبارها محاولة تركية للتمركز على البحر الأحمر، في منطقة شديدة الحساسية، الأمر الذي قرأه كثيرون كخطوة لتوسيع النفوذ العسكري والسياسي أكثر منه مشروعًا سياحيًا أو اقتصاديًا. ومع سقوط نظام البشير وتعقد الأوضاع الداخلية في السودان. لم تتخلّ أنقرة عن طموحاتها، بل أعادت صياغة أدواتها بما يتناسب مع السياق الجديد، من خلال تقارب مع بعض الأطراف في الجيش والحكومة، واستغلال الفوضى الداخلية لإعادة التموضع.

هنا يأتي الفيلم القصير ليضع هذه الحقائق تحت المجهر. مقدّمًا رواية بصرية توضح كيف تحاول أنقرة تكريس حضورها في السودان عبر أدوات متعددة، من الدعم العسكري وتوريد الأسلحة إلى التلاعب بالتوازنات السياسية المحلية. فالفيلم لا يكتفي باستعراض الوقائع. بل يربطها مباشرة بالسياسات الخارجية التركية، مسلطًا الضوء على خطورة هذه التحركات، ليس فقط على السودان، بل على تركيا نفسها.

من خلال تسليط الضوء على التدخلات المباشرة، يكشف الفيلم كيف ساهم الدعم التركي لبعض القوى السودانية في تعقيد المشهد السياسي الداخلي بدلًا من دعمه على طريق الاستقرار. إذ إن إدخال أسلحة متقدمة وتوفير دعم لوجستي لأطراف معينة لا يعني سوى تغذية الانقسامات وتوسيع رقعة النزاعات. ما يضع السودان في قلب صراعات إقليمية تهدد سيادته ووحدته.

كما يبرز العمل جانبًا آخر من الاستراتيجية التركية. يتمثل في استغلال الفراغ الإقليمي لتعزيز حضورها العسكري والاقتصادي. فمن خلال السودان، تحاول أنقرة خلق موطئ قدم يتيح لها التأثير على حركة التجارة عبر البحر الأحمر، ويمنحها ورقة ضغط في ملفات الأمن الإقليمي. لكن هذا التوجه، وإن بدا ظاهريًا استثمارًا استراتيجيًا، إلا أنه عمليًا يهدد الأمن القومي السوداني ويعرض المنطقة لمزيد من التوترات.

النقطة المحورية التي يتوقف عندها الفيلم هي أن هذه التدخلات تمثل انتهاكًا مباشرًا للسيادة السودانية، إذ تتحول الشراكة إلى وصاية. وتصبح القرارات الوطنية مرتهنة لدعم خارجي يسعى إلى فرض أجنداته الخاصة. هذا التحول يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة العلاقة بين البلدين: هل هي تعاون متكافئ، أم محاولة من أنقرة لإعادة إنتاج نفوذ إمبراطوري قديم بأدوات جديدة؟

الفيلم لا يتوقف عند السودان فقط، بل يضع التدخل في سياق أوسع يربطه بسياسات تركيا في ليبيا والصومال وشرق المتوسط. فالمشترك في كل هذه الملفات هو نمط التدخل المباشر، عبر دعم أطراف بعينها، وتوظيف الصراعات الداخلية لتعزيز النفوذ. هذه السياسة. وإن منحت أنقرة نفوذًا آنياً، إلا أنها تضعها في مواجهة قوى دولية وإقليمية كبرى. وتعرضها لعزلة سياسية وتآكل صورتها كدولة تسعى إلى التعاون المتوازن.

الرسالة الأهم التي يوجهها الفيلم، كما يوضح النص المصاحب له، هي إلى الداخل التركي بالدرجة الأولى. فالمشكلة ليست فقط في ما يجري في السودان. بل في كلفة هذه السياسات على المواطن التركي. فالموارد التي تُستنزف في مغامرات خارجية لا تنعكس على حياة المواطن. بل تضع بلاده في قلب صراعات مكلفة اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا. والأسوأ من ذلك أن صورة تركيا في المجتمع الدولي تتعرض للتشويه، إذ باتت تُنظر إليها كقوة توسعية لا تتردد في استغلال هشاشة الدول الضعيفة لتحقيق مصالحها.

وعلى هذا الأساس، يؤكد الفيلم أن الهدف ليس ضرب العلاقات الثنائية بين الشعبين. بل إثارة نقاش داخلي تركي حول جدوى هذه السياسات الخارجية. فالغاية الحقيقية تكمن في تحريك الرأي العام، ودفعه لمساءلة صانعي القرار بشأن التدخلات غير المحسوبة التي قد تضر بتركيا أكثر مما تفيدها.

في النهاية، يعكس الفيلم القصير رؤية أعمق لمستقبل الدور التركي في السودان. ويضع النقاش في سياقه الصحيح: ليس عن مشروعات تنمية أو تعاون اقتصادي، بل عن أطماع استراتيجية تحمل في طياتها مخاطر سياسية وأمنية جسيمة. وهنا تكمن أهمية الفيلم: فهو لا يكتفي بالكشف عن وقائع التدخل، بل يضعها في إطارها الأشمل. كجزء من سياسة خارجية تركية بحاجة ماسة إلى مراجعة جذرية قبل أن تتحول من طموح إلى مأزق استراتيجي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى