الفاشر.. حين تنكشف ملامح الحرب السودانية بين عجز الجيش وصعود الدعم السريع

من يتابع المشهد السوداني خلال الأشهر الأخيرة يدرك أن مدينة الفاشر تحولت إلى نقطة الارتكاز في حرب معقدة لم تهدأ منذ أبريل 2023. لم تعد العاصمة الخرطوم وحدها مركز الثقل، فالفاشر اليوم تُعطي إشارات أوضح على حقيقة الصراع: جيش تقليدي فقد زمام المبادرة، وقوات دعم سريع تتقدم بخطى واثقة، ومجتمع دولي يتحرك في الخلفية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الوضع الإنساني المنهار.
-
الأمم المتحدة تجدد تحذيرها: استمرار القتال في الفاشر يهدد آلاف المدنيين
-
تقدم ميداني لافت.. قوات التأسيس على وشك السيطرة على الفاشر
الجيش السوداني.. بين الخطاب والواقع
لوقت طويل، ظل الجيش السوداني يقدم نفسه باعتباره “حامي الدولة ووحدتها”، ويستمد شرعيته من تاريخ طويل في السلطة. لكن أحداث الفاشر جاءت لتفضح الهوة بين الخطاب والواقع. فالميدان لا يكذب، والمعطيات واضحة: انسحابات متكررة، انقسامات داخلية، ضعف في الإمداد والتسليح، وانهيار المعنويات بين الجنود.
من الناحية الاستراتيجية، يواجه الجيش مأزقاً وجودياً. فإذا خسر الفاشر، فإنه لا يخسر مدينة فقط، بل يفقد آخر أوراقه الرمزية في دارفور. والأخطر أن هذه الخسارة ستثبت عجزه عن حماية المدنيين، ما يفتح الباب أمام التشكيك في أهليته لقيادة السودان في مرحلة ما بعد الحرب.
-
بين الخرطوم والفاشر.. جوع ينهش المدن وحصار يضاعف المأساة
-
إدانة دولية متجددة.. استهداف الفاشر يضع الحرب السودانية أمام اختبار إنساني
الدعم السريع.. قوة الميدان وصورة “المنقذ”
على الطرف الآخر، تتحرك قوات الدعم السريع بخطط مدروسة، لا تقتصر على السيطرة العسكرية بل تمتد إلى البُعد الإنساني والسياسي. فالمقاتلون الذين سيطروا على مساحات واسعة من دارفور يسعون الآن إلى رسم صورة مغايرة عن أنفسهم: قوة منظمة، قادرة على إدارة مناطقها، وتوفير الأمن، والأهم تأمين وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين.
هذه النقطة بالذات ليست تفصيلاً صغيراً. إذ يدرك الدعم السريع أن الحرب في السودان لا تحسم بالسلاح وحده، بل بالصورة التي تصل إلى المجتمع الدولي. وفي وقت يُتهم الجيش بعرقلة الإغاثة أو الفشل في حمايتها، يحاول الدعم السريع توظيف الورقة الإنسانية كجسر يعزز شرعيته أمام العالم.
-
الفاشر تحت المجهر.. أرقام صادمة تكشفها اليونيسف عن الأطفال
-
انقسامات سياسية وعسكرية تعصف بمناوي وسط تصعيد في الفاشر
الفاشر.. أكثر من مجرد مدينة
لماذا الفاشر بالتحديد؟ لأنها ليست مدينة عادية في جغرافيا دارفور. تاريخياً، مثلت الفاشر عاصمة السلطان علي دينار، وأحد الرموز الثقافية والسياسية للإقليم. ومن الناحية الاستراتيجية، هي بوابة تربط شمال دارفور بغربه وشرقه، ومن يسيطر عليها يتحكم فعلياً في خريطة الإمداد والانتشار.
لذلك فإن التقدم السريع لقوات الدعم السريع في هذه المنطقة يرسل رسالة مزدوجة: للداخل السوداني بأن الجيش فقد قبضته، وللمجتمع الدولي بأن هناك قوة بديلة قادرة على الإمساك بمفاصل الإقليم.
المبادرة الأمريكية – الخليجية – المصرية
وسط هذه التطورات، برزت مبادرة جديدة تقودها الولايات المتحدة بالتعاون مع الإمارات والسعودية ومصر. المبادرة تركز على ضمان وصول المساعدات الإنسانية بشكل آمن إلى المناطق المتضررة، وعلى رأسها الفاشر. ورغم أن الهدف المعلن إنساني بحت، إلا أن الرسائل السياسية أوضح من أن تُخفى.
فالمجتمع الدولي بدأ يتعامل مع الأمر كـ”أمر واقع”: الجيش لم يعد الطرف الوحيد الذي يمكنه تأمين الأرض، والدعم السريع بات رقماً أساسياً. وهذا يعني أن أي تسوية قادمة ستضطر للاعتراف بمكانته، وهو ما يشكل تحولاً استراتيجياً في الموقف الدولي من الصراع السوداني.
-
الفاشر على حافة المجاعة.. والموت بالجوع يلتهم الأرواح بصمت
-
الحرب والجوع يدفعان أكثر من 400 ألف نازح لترك الفاشر
لعبة الشرعية.. من يمتلك الغد؟
السؤال الجوهري اليوم ليس: من يربح المعركة في الفاشر؟ بل: من ينجح في تقديم نفسه كطرف شرعي قادر على الجمع بين السيطرة الميدانية وحماية المدنيين؟
الجيش يستند إلى تاريخه ومكانته الرسمية، لكنه يفتقد القدرة العملية على حماية الأرض. بينما الدعم السريع يحاول أن يزاوج بين التفوق العسكري وصورة القوة المسؤولة. هذه المعادلة تعكس تحولات أعمق في بنية الدولة السودانية نفسها، التي تبدو مهددة أكثر من أي وقت مضى.
البعد الإنساني.. أزمة على أبواب كارثة
في قلب هذه المعادلة تبقى المأساة الإنسانية. الفاشر تحتضن مئات الآلاف من النازحين، والاحتياجات الإنسانية تتضاعف يومياً. نقص الغذاء والدواء والمياه النظيفة يهدد حياة عشرات الآلاف من المدنيين، والطرق مقطوعة، والمنظمات الدولية تواجه صعوبة في العمل.
لذلك فإن أي طرف ينجح في ضمان وصول المساعدات لن يحصد فقط مكسباً إنسانياً، بل ورقة سياسية بالغة الأهمية، لأنها تضعه في موقع “المنقذ” أمام الشعب والعالم.
-
السودان ينزف في الفاشر.. حصار وتجويع وميليشيات إخوانية متورطة
-
تأكيدات ميدانية: لا حصار على الفاشر والحياة تسير بشكل طبيعي
المجتمع الدولي.. مراقب أم صانع للحدث؟
المفارقة أن المجتمع الدولي الذي بدا عاجزاً لسنوات عن التأثير في مسار الحرب السودانية، بدأ يجد نفسه مضطراً للتدخل. المبادرة الأمريكية – الخليجية – المصرية تعكس إدراكاً بأن استمرار الوضع في دارفور دون حلول إنسانية سيقود إلى كارثة إقليمية: موجات نزوح عابرة للحدود، وتزايد تهديدات الأمن الإقليمي، وربما عودة الحركات المسلحة إلى الواجهة.
لكن السؤال هنا: هل سيتوقف دور هذه القوى عند حدود المساعدات، أم أنها ستفرض لاحقاً مساراً سياسياً يحدد من يحكم السودان؟
-
كارثة إنسانية تضرب الفاشر.. ومجلس الطوارئ يقرع ناقوس الخطر
-
هزيمة الفاشر الكبرى: تحقيق في انهيار الجيش السوداني وتداعياته الخطيرة
الفاشر مرآة السودان كله
إن ما يحدث في الفاشر ليس معركة محلية معزولة، بل صورة مكثفة عن الأزمة السودانية برمتها.
جيش يتآكل من الداخل ويفقد مكانته التاريخية، دعم سريع يتمدد ويبحث عن شرعية دولية، ومجتمع دولي يعيد ترتيب أوراقه بين التدخل الإنساني والحسابات السياسية.
من يربح الفاشر لن يربح مدينة فقط، بل قد يضع يده على مفتاح مستقبل السودان. فإما أن تكون هذه اللحظة بداية لتفكك الدولة أكثر، أو فرصة لولادة سلطة جديدة أكثر التصاقاً بواقع الأرض.
