السودان على صفيح ساخن.. قضية الطبيبة روعة تكشف نفوذ العلاقات داخل المؤسسات

في مشهد قاسي هز مدينة مروي، لم تكن أصوات الطائرات أو وقع الاشتباكات هي ما دوّى في ذلك النهار، بل كان صراخ البشر أكثر وقعاً، وكانت آثار الحادث على الإسفلت أبلغ من أي قذيفة. في لحظة خاطفة، تعرضت الطبيبة السودانية روعه عاء الدين، نائبة اختصاصية التخدير، لاعتداء جسيم عند بوابة المدينة الطبية، لتسقط بين أيدي زملائها الذين حاولوا إنقاذها، لكنها فارقت الحياة قبل أن تُغلق عينيها. الطبيبة التي اعتادت أن تعيد الحياة للمرضى تحت أجهزة التخدير، وجدت نفسها عاجزة عن حماية حياتها من شخص كان يوماً الأقرب إليها: زوجها السابق.
الواقعة لم تحدث في زقاق مظلم أو على أطراف مدينة منهكة بالحرب، بل في وضح النهار، أمام أعين المارة، وفي مكان يُفترض أن يكون ملاذاً للشفاء. وهنا تتجلى فداحة المشهد، حيث تحولت مساحة يفترض أن تكون آمنة إلى ساحة لتصفية حسابات شخصية، في مشهد يعكس كيف يمكن أن تُستنسخ مآسي الحرب الكبرى في تفاصيل الحياة اليومية، على جسد امرأة كانت تحمل حلماً بسيطاً: أن تصبح اختصاصية تخدير.
بيان صادر عن مستشفى الضمان في مروي أكد أن المعتدي سبق له أن تورط في واقعة مشابهة داخل حرم المستشفى نفسه، وأن بلاغاً قانونياً فُتح ضده حينها، لكنه خرج من السجن سريعاً ليكرر فعلته بعد فترة وجيزة، ما فتح الباب أمام تساؤلات واسعة حول كيفية إفلاته من العقاب رغم تكرار الاعتداء. ناشطون أشاروا إلى صلاته بمجموعة “البراءون”، وهي ميليشيا تقاتل ضمن صفوف الجيش في معركة الكرامة، وهي صلة يرى فيها كثيرون سبباً لحمايته من المساءلة، ومنحه حصانة غير معلنة ضد الردع القانوني.
الواقعة لم تكن معزولة، فالذاكرة القريبة لا تزال تحتفظ باسم طبيبة سودانية أخرى فقدت حياتها على يد زوجها السابق في السعودية، ما يعكس نمطاً متكرراً من العنف الذي يستهدف النساء العاملات في المجال الطبي. نجاحهن المهني، كما يرى بعض المراقبين، يتحول في نظر بعض الرجال إلى مرآة تثير شعوراً بالدونية، في مجتمع لا يزال يضع الذكورة في مرتبة أعلى من أي اعتبار آخر. وهنا، لا تعود الجريمة مجرد فعل فردي، بل تصبح امتداداً لأزمة مجتمعية أعمق.
وبينما ارتفعت الأصوات المطالبة بالعدالة، خرجت أخرى لتبرير ما حدث، من بينها شخصيات دينية معروفة مثل محمد هاشم الحكيم، الذي لم يتردد في تحميل الضحية جزءاً من المسؤولية، مستخدماً عبارات ملغومة أثارت استياء واسعاً. كان المشهد أقسى من تفاصيل الاعتداء نفسه، إذ انقسم المجتمع بين من يرى في ما حدث فعلاً يستوجب القصاص، ومن يراه ثمناً “مستحقاً”، في انعكاس لمأزق أخلاقي عميق.
روعة، خريجة جامعة التقانة، كانت قد نزحت من أم درمان إلى منطقة الصالحة بعد اندلاع الحرب، ثم لجأت إلى مصر مثل آلاف السودانيين، لكنها لم تحتمل الغربة، فعادت بإصرار لتكمل تدريبها في مروي، متمسكة بحلمها المهني. لم تكن تعلم أن عودتها ستكون موعداً أخيراً مع من كان يترصدها. في عام 2024، حكمت المحكمة لها بالطلاق وحضانة أطفالها، في وقت كانت فيه قاعات المحاكم مكتظة بملفات النزاعات الأسرية، وتحولت بعض القضايا إلى جرائم تُسجل تحت بنود القانون الجنائي لعام 1991، بين القصاص والدية والعفو. لكن في زمن الحرب، حتى هذه المعادلات القانونية أصبحت هشة، إذ بات القانون نفسه رهيناً للسلاح لا لميزان العدالة.
الواقعة التي أودت بحياة روعه عاء الدين لم تكن مجرد حادثة عابرة، بل إعلان صارخ عن زمن صار فيه جسد المرأة ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، وجداراً هشاً تنهار عليه كل عقد الحرب ومآسيها. الأداة المستخدمة في الاعتداء لم تكن مجرد وسيلة، بل نسخة مصغرة من أدوات الحرب الكبرى، استُخدمت في معركة أكثر قسوة: معركة البيت، معركة الطلاق، معركة الغيرة، معركة المجتمع ضد نسائه.
المأساة لا تكمن فقط في وقوع الاعتداء، بل في أن الجاني لم يكن يختبئ، بل نفذ فعلته في وضح النهار، مطمئناً إلى أن القانون يمكن أن يُطوى إذا كان وراءه سلاح أو جماعة. وهنا يبرز السؤال الذي يطعن في صميم المجتمع: إذا لم يستطع القانون حماية طبيبة تحمل أدوات إنقاذ الأرواح، فكيف يمكنه أن يحمي امرأة عادية بلا سند أو ظهر؟
روعة لم ترحل وحدها، بل رحل معها وهم أن المرأة في السودان يمكن أن تعيش آمنة وسط مجتمع يبرر العنف بالصمت أو بالدين أو بالعُرف. رحيلها هو مرآة مرفوعة في وجه الجميع، تعكس قبحاً يفضل الناس ألا ينظروا إليه. وإذا كانت للحرب الكبرى جبهات معلومة، فإن حربها الصغيرة، الأكثر غدراً، لا تزال تُشن في البيوت والشوارع والمستشفيات، على أجساد النساء، كل يوم وكل ساعة.
وحين تُستباح النساء بهذه السهولة، فإن المجتمع كله يكون قد كتب على جبينه حكماً لا يقل بشاعة عن الطعنة الأخيرة التي أنهت حياة روعه عاء الدين: الموت بالخوف، في وطن بلا عدالة.
