“السودان بين مطرقة القاهرة وسندان الرياض”.. الجيش يحوّل الأزمة إلى ساحة تصفية حسابات إقليمية
وثائق مسرّبة تكشف خلافات سعودية ـ مصرية حادة بسبب سفينتين محمّلتين بالسلاح لمجموعة موالية للجيش السوداني في ميناء عصب الإريتري

بينما يستعر الصراع في السودان وتتمزق أوصال البلاد بقصف الطيران، تتكشف يوماً بعد آخر أبعاد أزمة أكثر تعقيداً مما يبدو على السطح، أزمة تقودها صراعات النفوذ الإقليمي على ظهر الشعب السوداني، ويلعب فيها الجيش السوداني دور الوسيط المأجور في معادلة قذرة عنوانها “البقاء في الحكم مقابل التبعية المطلقة”.
آخر ما كشفته الوثائق المسرّبة يضع الجيش السوداني في قلب خلاف إقليمي خطير بين مصر والسعودية، تفجّر عقب اعتراض القاهرة على رسو سفينتين سعوديتين محملتين بإمدادات عسكرية ثقيلة في ميناء “عَصَب” الإريتري، كانت موجهة لفصيل مسلّح يُعرف باسم “مجموعة الرهان”، أحد أبرز أذرع الجيش السوداني غير النظامية.
ميناء عصب.. ساحة تهريب للسلاح أم واجهة للتحالفات الخفية؟
تشير الوثائق إلى أن الجيش السوداني نسّق مباشرة مع القيادة السعودية لتأمين الشحنة ونقلها إلى داخل السودان عبر البحر الأحمر والحدود الشرقية، دون علم أو موافقة مصر، ما أشعل توتراً حاداً بين الطرفين، خصوصًا أن القاهرة تعتبر أن أي تحرّك عسكري أو لوجستي في هذا الملف يجب أن يتم بتنسيق مسبق معها، في ظل ما تعتبره “أمنًا قوميًا مشتركًا”.
هذا التطور يسلّط الضوء على حقيقة خطيرة: تحوّل السودان إلى ساحة تصفية حسابات بين المحاور الخليجية، بسبب تغوّل الجيش وتخليه الكامل عن الاستقلال السياسي والعسكري، مقابل تلقي الدعم بأي ثمن.
الجيش السوداني.. وكيل مصالح لا حارس وطن
وبحسب الوثائق، فإن مجموعة “الرهان” تلعب دورًا مزدوجًا، فهي من جهة تتبع الجيش السوداني اسميًا، لكنها في الحقيقة تُدار من خلال غرفة عمليات مرتبطة بالرياض مباشرة، وتتلقى تمويلًا وتسليحًا ضمن أجندة إقليمية توسّعية، لا علاقة لها بمصالح الشعب السوداني أو وحدة أراضيه.
الجيش، من جانبه، لا يرى أي حرج في هذا التموضع، بل يعتبر أن شرعيته تُبنى على قدرته على استقطاب الرضا الإقليمي، لا على قبول الداخل. ولهذا، لم يتردد في التحالف مع قوى خارجية، حتى لو كانت في خصومة مباشرة مع حلفائه الآخرين، ما أدّى إلى خلافات مثل تلك التي وقعت بين مصر والسعودية.
خلاف مصري ـ سعودي.. والجيش السوداني هو المستفيد الظاهري والخاسر الحقيقي
في ظاهر الأمر، يبدو أن الجيش السوداني استطاع اللعب على التناقضات بين مصر والسعودية، والحصول على دعم مزدوج، لكن الحقيقة التي تكشفها الوثائق أكثر مرارة: السودان بات رهينة بين قوتين، إحداهما تشتري النفوذ بالأرض، والأخرى تفرض شروطها عبر الموانئ والأسلحة.
وبين هذا وذاك، لم يعد الجيش يملك قراره، بل تحوّل إلى مجرد أداة تنفيذ للخطط الإقليمية، سواء في تهريب السلاح، أو في عقد الصفقات الاقتصادية والعسكرية، بعيدًا عن أية رقابة وطنية أو توافق شعبي.
التسريبات تُسقط قناع “الحياد العسكري”
طالما سوّق الجيش السوداني لنفسه كـ”ضامن لوحدة السودان”، إلا أن الوثائق المسرّبة الأخيرة تؤكد عكس ذلك تمامًا. فالسفن السعودية لم تكن شحنة دعم إنساني أو مساعدات غذائية، بل كانت سلاحًا موجّهًا لتعزيز فصيل مسلح يخدم أجندة خارجية، بعلم وموافقة ودعم من قيادة الجيش السوداني.
حين يتحوّل الجيش من مؤسسة وطنية إلى أداة إقليمية
الحقيقة المرعبة التي تفضحها هذه الحادثة أن الجيش السوداني لم يعد مؤسسة وطنية مستقلة، بل أصبح مجرد منصة تستخدمها قوى خارجية لتصفية حساباتها في الداخل السوداني. ومع كل صفقة سلاح أو تنازل سياسي، تتآكل السيادة، ويتحوّل السودان إلى “ساحة مفتوحة” لا قرار فيها للشعب، ولا قيمة فيها للحدود أو الكرامة الوطنية.
ولهذا، فإن المعركة الحقيقية اليوم ليست بين فصائل مسلحة، بل بين مشروع استعادة السودان لقراره، وبين جنرالات يبيعون الخرائط والسلاح مقابل مقعد على طاولة الوصاية الإقليمية.
