الحرية الدينية في خطر: اعتقال إمام بسبب موقفه الرافض لتسييس المساجد في المناقل
في مشهد يعكس تزايد الضغوط الأمنية على المنابر الدينية في السودان، أقدمت السلطات الأمنية بمدينة المناقل بولاية الجزيرة على اعتقال الإمام والخطيب ولي الدين محمد علي عمر، بعد أن اكتفى في خطبته بدعاء شرعي تقليدي قائلاً: «اللهم أرنا الحق حقاً وأرزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وأرزقنا اجتنابه».
الواقعة، التي أثارت موجة من الاستنكار في الأوساط الدينية والحقوقية، تكشف جانباً خفياً من محاولات تسييس الخطاب الديني في خضم الصراع المسلح الدائر بين الجيش وقوات الدعم السريع في البلاد.
«ادعُ للجيش وإلا…»
مصادر تحدثت من داخل مدينة المناقل أكدت أن ضباطاً أمنيين وجهوا تحذيرات مباشرة للإمام ولي الدين قبل أسابيع، تطالبه بتخصيص جزء من خطبه للدعاء بشكل علني ومباشر لـ”نصرة الجيش”، واعتبار ذلك “جزءاً من الجهاد الوطني”، غير أن الإمام تمسك بموقفه المحايد، مؤكداً أن المنبر ليس ساحة للولاءات السياسية بل مكان للدعوة إلى الحق والعدل والابتعاد عن الفتن.
وفي الجمعة الماضية، وبعد أن اختتم الإمام خطبته بالدعاء المعروف الذي طالما ردده الأئمة عبر العصور «اللهم أرنا الحق حقاً وأرزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وأرزقنا اجتنابه»، اقتحم عناصر أمن بزي مدني المسجد فور انتهاء الصلاة، واعتقلوا الإمام أمام أعين المصلين.
بين الدعوة للحق وفرض الاصطفاف
العديد من المصلين الذين شهدوا الواقعة، عبّروا عن صدمتهم من المبررات التي ساقها الضباط عقب الاعتقال، والتي تلخصت في أن الدعاء “غير كافٍ” وأن المطلوب “الدعاء صراحة للجيش في ظل الحرب”. وتساءل أحد الحاضرين: “هل أصبح الدعاء لله بالهداية إلى الحق تهمة؟ هل تحولت المنابر لمجرد أدوات لتصفية الحسابات؟”.
سابقة خطيرة ومناخ من الخوف
علماء ودعاة وصفوا الحادثة بأنها تمثل “سابقة خطيرة في تاريخ السودان الحديث”، مؤكدين أن خطورة الأمر لا تكمن فقط في اعتقال الإمام، بل في الرسالة التي ترسلها السلطات للأئمة والدعاة: “إما أن تصطف مع خطابنا أو يتم إزاحتك”.
وأفاد أحد أساتذة الشريعة في جامعة أم درمان الإسلامية، فضّل عدم ذكر اسمه لدواعٍ أمنية، أن “الدين في السودان يمر حالياً بأخطر مراحله، حيث أصبح الأئمة بين مطرقة الحرب وسندان السلطات التي تريد تحويل المنبر من دعوة لله إلى خطاب تعبئة وتحشيد يخدم أطراف الصراع”.
مصادر داخل مدينة المناقل أكدت أن الاعتقال بث الخوف في أوساط عدد كبير من الأئمة الذين باتوا يخشون حتى من تلاوة الأدعية النبوية المحايدة، خشية تفسيرها كنوع من “التهرب من الموقف السياسي المطلوب”.
وبحسب أحد الشيوخ المحليين الذي طلب عدم الكشف عن هويته، فإن “الأئمة باتوا يخضعون لاستدعاءات أسبوعية في مكاتب الأمن، ويتم تلقينهم نصوصاً لدعاء بعينه، حتى أصبحت خطب الجمعة متشابهة ومُوجهة، مما يُفقد الخطبة روحها الشرعية والوعظية”.
ردود فعل دينية وحقوقية
من جانبه، وصف الدكتور يوسف الفاضل، أحد أعضاء هيئة علماء السودان، الواقعة بأنها “تعدٍ صريح على قدسية المسجد، ومحاولة فجّة لفرض أجندة أمنية على خطاب ديني يجب أن يبقى مستقلاً ونزيهاً”. وأضاف: “هذه الضغوط تُفقد المنابر مصداقيتها، وتجعل من الدين أداة بيد الساسة، وهو أمر له عواقب وخيمة على النسيج الديني والمجتمعي”.
أما منظمة هيومن رايتس ووتش، فقد أصدرت بياناً عبر مكتبها الإقليمي، اعتبرت فيه الحادثة “انتهاكاً خطيراً لحرية التعبير والعبادة في السودان”، وأضافت: “اعتقال إمام بسبب مضمون دعائه السلمي يعكس حالة من القمع تتجاوز مجرد التضييق السياسي، وتمس صميم الحريات الدينية التي يكفلها القانون الدولي”.
وفي السياق ذاته، شددت منظمة العفو الدولية على أن “المساجد ليست ساحات للتحشيد العسكري”، مؤكدة أن ما جرى في المناقل يشكل جزءاً من “سياسة ممنهجة لتحويل المنابر إلى أدوات تعبئة لصالح أطراف النزاع”.
صمت رسمي مثير للريبة
حتى لحظة إعداد هذا التحقيق، امتنعت السلطات عن إصدار أي توضيح رسمي حول أسباب اعتقال الإمام ولي الدين أو مكان احتجازه، رغم تصاعد حملة تضامن محلية ودولية واسعة، تدعو للإفراج عنه واحترام استقلالية المنابر الدينية.
ويبقى السؤال معلقاً بين أروقة المساجد والشارع السوداني: هل أصبح الحياد الديني جريمة يُعاقب عليها الإمام في السودان؟