الحراك الثوري وتداعياته: عبدالله عابدين يسلط الضوء على سقوط دومينو البشير
د. عبدالله عابدين
الآن نطرح السؤال: هل نجح مخطط الاسلام السياسي في السودان؟! ..
الاجابة، باختصار شديد: لا .. أكثر من ذلك، فان “مشروعهم الحضاري” قد فشل، بل أنهار كلياً في أرض السودان، كما سلفت الى ذلك الاشارة. و انقلب التمكين وبالاً عليهم، و تمنوا أن لو إنشقت الأرض و ابتلعتهم قبل أن يروا ذلك اليوم .. ففي صبيحة الحادي عشر من أبريل من العام ٢٠١٩ سقط عمر حسن أحمد البشير، هبل النظام و رأسه. و تلى ذلك، السقوط المدوي لنائبه، و وزير داخليته أحمد عوض أبنعوف، الذي نصب نفسه خلفا له، جارفا معه نائبه كمال عبد المعروف، رئيس هيئة الأركان، مما سمي بالمجلس العسكري الانتقالي، أو قل ان أردت الدقة “لجنة البشير الأمنية”. و تزامن ذلك مع استقالة الفريق صلاح قوش: مدير جهاز أمن البشير، و محمد حمدان دقلو: قائد قوات الدعم السريع، من نفس المجلس.
وقع هذا الانهيار المدوي “لدومينو” البشير بسرعة فائقة، أذهلت الجميع بعد أن تداعى حراك الهوامش متوجاً بشرارة عطبرة، و قشتها التي قصمت ظهر بعير صبر شعوب السودان. هبت الجماهير في موجات كاسحة، و تمكنت في السادس من أبريل ٢٠١٩ (ذكرى انتفاضة مارس-أبريل ضد نظام جعفر النميري في العام ١٩٨٥) من التسرب، ثم التدفق، في كتل هادرة الى الساحات، و الشوارع، المحيطة بالقيادة العامة لقوات الشعب المسلحة بالخرطوم.
وبدأ بهذه الحشود الهادرة تشكيل ساحة اعتصام لثورة ديسمبر السودانية المجيدة، بعد أن كانت جماعات الثوار محاصرة في الأحياء، مع صولات، و جولات باسلة سقط فيها الكثير من الشهداء، برصاص أجهزة الأمن، و “كتائب الظل”، و “الخلايا النائمة”، التابعة لنظام الانقاذ. تلك المليشيات ذات الطابع الجهادي التي برع المتأسلمون في إعدادها على مر السنين، لقمع أي بادرة إحتجاج ضدهم، فما توانوا عن تكميم الأفواه، و ما ارعووا عن قمع الرأي الآخر ..
و لكن كيف تمكنت الثورة من إنجاز عملية الإعتصام أمام القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة في السادس من أبريل ٢٠١٩؟! ..
توالت موجات الحراك بعد إندلاع شرارة عطبرة، و بورتسودان، و قبلها مايرنو، و الدمازين، كما ذكرنا آنفاً، و لم يتوقف مدها الزاخر، بل تصاعدت موجاتها، و زخمها، في سلمية و حضارية، شكلت عنوانها الأكبر، و ماعونها الأوسع. هكذا انطلقت الجماهير مستثمرة رصيدها من النضال الثوري الذي تراكم عبر السنين، و كان أقربها ما حدث في العام ٢٠١٣، حيث خرجت جماهير الشعب السوداني الى الشوارع منددة بسياسات نظام الإنقاذ، و فساد مسئوليه، و إستهانتهم بالأوضاع المعيشية للشعب السوداني. و قد تفجرت موجات هذا الحراك إثر قرار حكومة الإنقاذ رفع الدعم عن المحروقات، فشكل هذا القرار شرارة تلك الثورة التي سقط فيها، جراء آلة النظام القمعية، حوالي ٢٠٠ من الشهداء، كما أصيب المئات منهم بجراح تفاوت ما بين الخطير، و الأقل خطورة.
و كانت إرهاصات الثورة كما “المياه خلف السد” تتجمع رويداً رويداً. و يحلو لنا هنا توظيف نموذج “مياه السد” عدة مرات، و استعادته، و اسقاطه على حالات ثورية متنوعة بغرض رسم معالم لوحة أكثر شمولاً للثورة. هذا يعني أن الثورة لا تندلع من فراغ، بما انها ظاهرة اجتماعية-تاريخية، و طبيعية، ان شئت: فنموذج مياه السد يمثل الخلفية التراكمية الوئيدة و الضرورية للثورة. أما لحظة اندلاع الثورة، تلك اللحظة الفارقة، فتتميز بالشرارة التي تقدح زناد الحدث الثوري، و تفجره في الزمان و المكان المحددين، و من ثم يتوسع المد الثوري كما النار في الهشيم.
و قد تكون الشرارة، في بعض الأحيان، حدثاً “تافهاً”، مثل “القشة التي قصمت ظهر البعير”، كما أسلفنا الى ذلك الاشارة في مقال سابق. فمنذ شهور خلال العام ٢٠١٨، بل من قبل ذلك بكثير، كانت الأحوال تزداد سوء، فالنقود، أو “الكاش”، ممثلاً في الدولار، و العملة السودانية، صارا من ندرتهما كالكبريت الأحمر!! .. أما الخبز فقد كانت أزمته تتصاعد كل يوم جديد، و تتطاول طوابيره، كما كانت طوابير مماثلة أمام البنوك، و داخلها، و حول مواقع الصرافات الآلية.
و لم يعد للشعب السوداني وقت لحياة طبيعية، حيث ان أفراده لابد واقفون في أحد هذه الطوابير. و صار الناس يتندرون بهذه الأمور، و غدت الأسافير مكتظة بحوارات لا تنفك عن تناول هذه الظواهر الطابورية، التي بطبيعة الحال ليست سوى إنعكاسات لأشياء أعمق، و أكثر كارثية، مما يتجلى على السطح من مظاهر ذات طابع قد يبدو بسيطاً، لا يثير الانتبهاه. و تنامى الإحساس بعبثية الأحوال، و لا جدوى الإستمرار في هذا اللامعقول، و اضطرد، خاصة وسط الشباب الذين يعانون أصلاً من البطالة، و من الشعور باللا-هدفية، و اللا-جدوى جراء ما حاق بالبلاد من محل و محاق.
و هنا كانت الأدوات الحديثة من تقنيات الإتصال و التواصل، تعمل بلا هوادة في ربط الشباب بعضهم بعضاً. و تكونت بينهم مجموعات إسفيرية عديدة، تذهب المذاهب في تحليل الأوضاع، و في توصيف الأحوال. و من ثم اكتسبت موجات التواصل الخطابية النقدية المتصاعدة هذه، زخماً جديداً، نقلها الى مستوى التخطيط، لتتداعى الى دعوة الجماهيرالى الخروج. و أدى ذلك الى وضع هذه الجماهير في حالة تأهب قصوى، الى أن واتتها الفرصة السانحة بالخروج لتنداح موجات الحراك الثوري، و تغمر الشوارع بمدها، و هتافها الداوي في قرى، و حواضر السودان، و من ثم الى مدن العاصمة المثلثة: الخرطوم و أمدرمان و الخرطوم بحري، في الاتجاه المعاكس هذه المرة، من الهوامش الى المركز ..
ألا ترون معي أن قوى الثورة المضادة، من الفلول، و رصفائهم، قد فشلوا فشلاً ذريعاً في رؤية العاصفة، و هي تتجمع ملبدة سماء عروش الطاغوت التي عكفوا على تشييدها سنين عدداً؟! بل انهم، فيما يتعدى ذلك، ذهلوا عن قوة هذه العاصفة الثورية، و عن أصالتها، بعد أن هب اعصارها كاسحاً وراءه تلك العروش المشادة من الحطام، و الأماني القصار، جراء افتقارها الممض الى أي ؤية، أو قيمة؟!. أكثر من ذلك، تمادى الانكار بأهل الانقاذ الى الحد الذي عكفوا مرة أخرى على “عجل الذهب” الذي اصطنعوه على قارعة الوهم، و راحوا في صحراء تيههم “يكيدون كيدا”ً، ظنا منهجم أنهم عائدون، و لكن هيهات ..