الجيش يستعين بقيادات عسكرية سابقة في نظام البشير
استعانة الجيش بالقيادات العسكرية السابقة في نظام البشير والتي تتبع نهج الاخوان المسلمين وتدعمهم يطرح كبيرة حول دورها في تغذية الصراع الراهن بين قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وبدا هؤلاء كأنهم الطرف الثالث الذي يمكن أن يطلق غول التطرف في البلاد.
وربط مراقبون بين الكلمة المسجلة التي أذاعها القيادي في حزب المؤتمر الوطني المنحل أحمد هارون بعد فراره من سجن كوبر وعدد من القيادات الأخرى، وبين دور مناصري البشير في المعارك الراهنة، فهم الطرف الذي يمكن أن يحقق مكاسب بعد أن تعرض لإقصاء حاد من قبل القوى المدنية.
ويريد أنصار الحركة الإسلامية قلب الطاولة ومحاولة تعديل موازين القوى لصالحهم عبر تقسيم الشارع السوداني وتكريس الفتنة داخل المؤسسة العسكرية، بشقيها الجيش والدعم السريع، لأن هذا هو السبيل الوحيد أمامهم لاستعادة نشاطهم على المسرحين الأمني والسياسي في السودان. ويعتمد الإسلاميون على وجود تيار إسلامي كبير تشكل منذ عهد البشير، ويمكن أن يتخلى المنتمون إليه عن كمونهم ويلعبوا دورا مؤثرا في تأجيج الصراع عبر ارتكاب جرائم ينسبونها إلى هذا الطرف أو ذاك.
وقد حوّل القتال المفتوح بين جناحين عسكريين شاركا معا في السلطة بالسودان هذا البلد المهم إستراتيجيا إلى مطمع لجماعات متطرفة متمركزة فيه وداخل عدد من الدول المجاورة له. ويبدو السودان في هذا السياق حالة غير استثنائية، فالصراع هو استنساخ لصراعات أخرى تكررت في دول مختلفة، وسوف يحوّل استمراره الدولة إلى ساحة لإنتاج خلايا إرهابية قد تتعرض لما يشبه الغزو الإرهابي.
استعدادات داعش والقاعدة
وضع تنظيما داعش والقاعدة في مناطق نفوذهما بأفريقيا شرقًا وغربًا وجنوبًا خططا لاستغلال الموقف ليسبق أحدهما الآخر مع استمرار دوامة الاقتتال بين قوات الجيش والدعم السريع، بهدف السيطرة على مساحات سودانية شاسعة ربما يتركها المتصارعون خلفهم فارغة.
وإذا تدهور الوضع أكثر واستمر الصراع المسلح لفترة أطول فإن فرص تنظيم القاعدة أكبر مقارنة بفرص داعش، بالنظر إلى تاريخ حضور الأول ونشاط في السودان خلال حقبة التسعينات عندما اتخذ زعيم التنظيم الراحل أسامة بن لادن من السودان مقرا له حتى ضغطت الولايات المتحدة لطرده منه، ما ساعده على تكوين شبكة علاقات قوية مع سياسيين وعسكريين نافذين في البلاد، ولا تزال بقاياه حاضرة في علاقات خفية بين القاعدة وعناصر عسكرية محسوبة على نظام الرئيس السابق عمر البشير ومنخرطة في الجيش، وتعمل على زيادة أمد التصعيد. كما أن الطرف الرئيسي في الأحداث المستعد لتقديم حوافز لفصائل مقاتلة أجنبية، وهو جماعة الإخوان، سيفضل التعاون مع تنظيم القاعدة عن أيّ كيان آخر.
جاء الاستثناء السوداني من المعضلة التي واجهتها بعض الدول العربية أثناء موجة “الربيع العربي” والثورات السابقة من وجود الحركة الإسلامية بالفعل في السلطة آنذاك، حيث بدا وجودها متسقا مع المدى الذي ذهبت إليه الثورة في مصر أو تونس، وعندما تأكد تهميش الإسلاميين في السلطة فكر السودان في إجراء ربيع خاص به من خلال التجهيز لانقلاب عسكري جديدة يمكّن الجماعة من القفز على السلطة، أو في أسوأ الأحوال تحويل البلاد إلى أرض محروقة، تمهد الطريق لنفوذ العناصر المتطرفة المتحالفة مع الإخوان والتي تلتقي أجندتها معها في محكات مصيرية ومسلحة.
ويزيد من تعقيد الحالة السودانية التداخل والتضاد بين قوة من المفترض أن يُوجه إليها الدعم الإقليمي والعربي، وهي الجيش، مقابل اعتبار أيّ كيان مسلح آخر ميليشيا متمردة يلزم تقويضها وتفكيكها.
وأفادت مؤشرات عديدة منذ انطلاق شرارة القتال في الخامس عشر من أبريل الجاري أن من دبّر أسباب الحرب ضباط كبار ينتمون إلى جماعة الإخوان نشطون داخل مؤسسة الجيش، بهدف الحيلولة دون محاسبتهم على جرائمهم وإجهاض الاتفاق الإطاري المُفضي في النهاية إلى تسليم الجيش للسلطة إلى حكومة مدنية.
وتكبل المعادلة المعكوسة داخل السودان الجهود العربية الرامية إلى فرملة خطط تريد خلق أوضاع فوضوية في السودان تعتمد على بقايا النظام البائد والإخوان داخل الجيش ومؤسسات عدة، ويقطع ذلك الطريق أمام التحول الديمقراطي وتسليم السلطة لحكومة مدنية.
وهناك اصطفاف قام به كل رموز نظام البشير وأنصاره وقادة وعناصر جماعة الإخوان مع الجيش في هذه الحرب لأجل هزيمة قوات الدعم السريع التي تحولت إلى شوكة في حلوقهم عقب تحالفها مع القوى المدنية وإصرار قائدها على ابتعاد الجيش عن السلطة وتسليمها إلى حكومة مدنية.
وإذا أرادت بعض القوى الإقليمية تطبيق عقيدتها القائمة على التعامل مع أيّ كيان مسلح مواز كميلشيا منبوذة، فإنها تصطدم بإشكالية كشفها خطاب قوات الدعم السريع التي تقدم نفسها كمنقذ للبلاد وطرف داعم للديمقراطية والحكم المدني ومحاربة فلول البشير وخلايا الضباط الإسلاميين المتطرفين الساعين لاستمرار هيمنتهم على السلطة من وراء الستار.
الإخوان والإرهاب
اعتادت جماعة الإخوان لتحقيق أهداف من هذا النوع التحالف مع تنظيم القاعدة، ففي مصر تحالفت مع مجموعة “المرابطون” الموالية للقاعدة بقيادة الضابط المصري المنشق هشام عشماوي، وفي تونس تقاربت حركة النهضة مع مجموعة أنصار الشريعة الموالية لنفس التنظيم.
ودخل الإخوان بالسودان في تحالف شهير مع القاعدة وهو ما ساعد القيادي السابق والرجل الأول في التنظيم ومؤسسه أسامة بن لادن على تقوية روابطه مع القيادي الإسلامي السوداني حسن الترابي عام 1989، وساعده في حربه ضد الجبهة الشعبية لتحرير السودان، مقابل السماح للجهاديين باستخدام البلاد كمركز لعملياتهم في مختلف أنحاء العالم، وهو ما وثّقه تقرير لجنة أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
ولم يأت تصنيف الولايات المتحدة للسودان عام 1993 كدولة راعية للإرهاب من فراغ، حيث مكّن الترابي تنظيم القاعدة من استخدام الموارد السودانية وأسهم في عقد صفقة بينه وبين الحرس الثوري الإيراني، منحت التنظيم قوة مضاعفة ظهرت بوضوح في تفجيرات عام 1998 التي استهدفت سفارات دول غربية في شرق أفريقيا.
وفقدت جماعة الإخوان في السودان رفاهية الاختيارات ودخلت مرحلة كسر عظم عقب الانقلاب على القوى المدنية في أكتوبر 2021، وانهيار الاتفاق الإطاري بين المجلس المركزي بقوى الحرية والتغيير والمكون العسكري، وهو القشة التي أظهرت الخلافات على السطح. وهو ما يعني بدء مرحلة جديدة تتيح لتنظيم القاعدة فرصًا ربما أكبر من تلك التي نالها مع بدايات الحكومة التي تشكلت عقب انقلاب البشير على القوى المدنية سنة 1989.
وإذا كان الأب الروحي للإسلاميين في السودان حسن الترابي منح القاعدة في السابق موطئ قدم عبر الدعوة لإقامة خلافة إسلامية وتحرير الجنوب من المسيحيين، فسلاح تعبئة الإخوان للتكفيريين يتمثل في تصوير النضال ضد القوى المدنية والعلمانية والشيوعيين واليسار كفعل جهادي. ومع كل تحرك للإخوان بهذا الاتجاه وجدت تحركات موازية من تنظيم القاعدة الذي بدأ قادته في الإقليم مبكرًا تجهيز تشكيل خلايا إرهابية في السودان.
وأصدر القاعدة في السابع عشر من أكتوبر الماضي وثيقة مطولة بقلم منظر التنظيم أبوحذيفة السوداني (وهو قيادي في فرع سوريا) تحت عنوان “رسائل حرب إلى المجاهدين في السودان”، دعا فيها إلى تصدر تنظيمه المشهد لإقامة دولة إسلامية، مستفيدًا من عدم الاستقرار الأمني والسياسي.
واللافت في الوثيقة التي نشرتها دار “بيت المقدس” إحدى أذرع القاعدة الإعلامية التي لم تتعرض بسوء لنظام البشير وفلوله، هو التصورات المشتركة التي جمعت بين الإخوان والقاعدة وقادة الجيش وجرى ترجمتها عسكريًا خلال المرحلة الماضية.
ووجد أبوحذيفة أن إبرام الاتفاق الدستوري عام 2020 وإشارته ليكون السودان دولة علمانية توقيت مناسب لانطلاق شرارة الجهاد في البلاد. واعتبر في وثيقته المكونة من 82 صفحة التحول نحو الديمقراطية في السودان عودة لعبادة الأصنام وأنه “مشروع كافر”، داعيًا لتشكيل كتائب مسلحة داخل الخرطوم وخارجها لإزالة كيانات الكفر وإقامة دولة التوحيد.
ويجد قادة القاعدة الصراع العسكري المحتدم والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية شبه المنهارة فرصة مواتية للتمدد والتمركز ببلد شاسع مترامي الأطراف متنوع التضاريس والمناخات من جبال وغابات وصحار تتيح مجالًا واسعًا للحركة والمناورة. وتستطيع عناصر القاعدة التسلل للسودان عبر الحدود الجنوبية الشرقية، مستفيدين من تمركزات فرع التنظيم بالصومال (حركة الشباب الإرهابية).
ويحتاج القاعدة لإحراز هذا التمركز الإستراتيجي داخل السودان للتخفيف من وطأة هزائمه في العراق وسوريا، ومن التحديات والضغوط التي يعاني منها بالصومال، وأيضًا إثيوبيا وكينيا، بعد أن تشكلت من هذه الدول جبهة مشتركة ضد الجماعات الإرهابية.
تصورات مشتركة
لا يخفى ما يمثله السودان بثرواته الزراعية ومعادنه وموقعه الجغرافي الحيوي لأفرع القاعدة بالدول الخمس في شرق أفريقيا وغربها والساحل الأفريقي، من أهمية حيوية تتوجب عليه عدم التفريط بها. وتنسق شبكات تنظيم القاعدة في اليمن وأفريقيا معا كي تتقاسم الموارد بشكل وثيق، ما يجعل ضم السودان إلى هذا الفضاء الجغرافي هدفا حيويا.
ويشارك داعش القاعدة نفس التصور مخططًا لنفس الهدف، وإن كان يستخدم خطابًا دعائيًا مختلفًا قائما على توجيه النقد اللاذع لجماعة الإخوان ورفض المكونات المدنية والعسكرية الفاعلة على الساحة السودانية. ويستند داعش للوصول إلى الجغرافيا السودانية على وجوده وحضوره القوي في جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تفصلها عن السودان دولة جنوب السودان غير القادرة على سد الفراغات الأمنية ومنع التنظيم بشكل مستمر من اختراق الحدود ليحقق مبتغاه.
ويراهن داعش كي يتمكن من استثمار الفوضى والفراغ بمساحات واسعة من السودان نتيجة الاقتتال الجاري على نفوذه وتمدده عبر أفرعه القوية في غرب أفريقيا في نيجيريا والصحراء الكبرى وعلى فرعه في الساحل. ومن المستبعد أن يفوت داعش والقاعدة فرصة ثمينة كهذه للتدخل في صراع من المفترض أن يحقق لهما مكاسب طائلة، خاصة وأن الاشتباكات الدامية بين أطراف المكون العسكري تنتشر في جميع أنحاء البلاد ووصلت إلى مناطق في شمال دارفور وغرباه وجنوبها.
ومن غير المتوقع أن تنتهي الحرب سريعًا نظرًا إلى ضعف فرص الانتقال الناجح واندلاع مواجهات غير متماثلة تستخدم فيها ساحات القتال غير التقليدية ويندمج المقاتلون مع السكان المدنيين. ويعزز تعطيل مسيرة الانتقال إلى الحكم المدني واستمرار الصراع العسكري لفترات طويلة فرص القاعدة وداعش في الحضور وتحقيق مكاسب كبيرة على الأرض، وهو السيناريو الذي قد يؤدي إلى تقسيم البلاد ويمهد لتوالد أجسام عسكرية وحركات مسلحة غير نظامية بجوار الجيش.
ورغم تاريخه الطويل وتدخله المتكرر في الصراعات بالسودان، فقد فشل تنظيم القاعدة في إنشاء جبهة جهادية فاعلة داخل السودان، ما يعود إلى طبيعة التدين السوداني الصوفي وميل المواطنين إلى الحوار والتسامح ونبذ العنف. ورفضت الجماعات والحركات المتمردة الرئيسية في دارفور في غرب السودان عام 2006 مناشدات أسامة بن لادن وأيمن الظواهري للسودانيين لبدء الجهاد بالتعاون مع من يرسلهم من مقاتلين أجانب إلى المنطقة.
وما نجح فيه تنظيم القاعدة خلال سنوات ماضية هو تجنيد مقاتلين سودانيين محترفين في مختلف فروعه الدولية، وهم من شاركوا مع مصريين في القبض على مفاصل التنظيم والتحكم في أجنحته المختلفة وهيكله القيادي. ويحاول تنظيم القاعدة الآن من خلال مقاتليه الدوليين اقتحام الفوضى واستغلال الأوضاع المنهارة واحتدام الصراع المسلح لتحقيق ما فشل قادة التنظيم مرارًا فيه، وهو تأسيس كيان قاعدي طويل الأمد في السودان.
ويخدم تنظيم القاعدة معادلات السودان المعكوسة، المتمثلة في وجود ضباط كبار من الإخوان على رأس الجيش، على استعداد لفعل أيّ شيء يمكّنهم من الاستمرار في الحكم، مقابل ما انطبع من صورة سلبية لدى العديد من الأطراف حيال قوات الدعم السريع.