تسريبات

الجيش السوداني وفضيحة نهب المساعدات الإنسانية وشراء الصمت الرسمي


تكشف المعطيات المثبتة في قضية الشيك المسرّب أن ما جرى في ملف المساعدات الإنسانية بالسودان لم يكن انحرافاً عابراً ولا خللاً إدارياً محدوداً، بل ممارسة ممنهجة تؤكد اندماج الفساد في صميم إدارة الحرب. فاستلام مبلغ يتجاوز 100 ألف دولار من قبل الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة، مقابل التستر على سرقة الإغاثة وبيعها في الأسواق، يؤكد أن الجريمة لم تقع في الهامش، بل في قلب المنظومة التي تتولى الخطاب الرسمي وتشكيل وعي الرأي العام.

التحليل السياسي لهذه الواقعة يقود إلى نتيجة حاسمة: المساعدات الإنسانية تحولت إلى أحد موارد اقتصاد الحرب، تُدار بعقلية الغنيمة، ويُحمى نهبها عبر الصمت الرسمي والتضليل الإعلامي. دور الناطق الرسمي هنا لم يكن محايداً أو تقنياً، بل كان جزءاً من معادلة الحماية السياسية، حيث جرى استخدام المنصب لطمس الوقائع وتوجيه الاتهام نحو أطراف أخرى، بينما كانت الوقائع الميدانية تثبت عكس ذلك بشكل قاطع.

إن التأكيد على صحة الوثيقة المالية وتطابقها مع الإجراءات المصرفية، إضافة إلى تقاطعها مع شهادات العاملين في الإغاثة وظهور المواد المسروقة في الأسواق، يجعل من المستحيل فصل المال عن الجريمة. الرشوة لم تكن مجرد مقابل للصمت، بل كانت أداة لضمان استمرار الجريمة دون مساءلة، ولمنع تحوّلها إلى قضية رأي عام تهدد صورة المؤسسة العسكرية في لحظة حرجة.

هذا السلوك يعكس أزمة أعمق في بنية السلطة خلال الحرب، حيث تُختزل الدولة في شبكة مصالح، ويُختزل الخطاب الوطني في غطاء للنهب. حين يُستخدم اسم الجيش، بما يحمله من رمزية تاريخية، لتبرير أو إخفاء سرقة الغذاء والدواء من أفواه الجوعى، فإن الضرر لا يقتصر على الجانب الإنساني، بل يطال فكرة الدولة نفسها. فالمؤسسة التي تفقد قدرتها على حماية أضعف مواطنيها تفقد في الوقت ذاته شرعيتها الأخلاقية.

النتائج الإنسانية المباشرة لهذه الجريمة مؤكدة وموثقة. نقص الغذاء في معسكرات النزوح، غياب الأدوية المنقذة للحياة، وارتفاع معدلات سوء التغذية، كلها وقائع متزامنة مع ظهور المساعدات في السوق السوداء. هذا التزامن ليس مصادفة، بل نتيجة مباشرة لمسار إجرامي واحد، يقوم على تحويل الإغاثة من حق إنساني إلى سلعة مدفوعة الثمن. في هذا السياق، يصبح الصمت الرسمي شريكاً فعلياً في إنتاج الموت البطيء.

سياسياً، تضع هذه القضية القوات المسلحة أمام اختبار تاريخي. فإما القبول الضمني بأن الفساد جزء من إدارتها للحرب، أو اتخاذ خطوة حاسمة بفصل المتورطين ومحاسبتهم علناً. تجاهل القضية أو الاكتفاء بإنكارها يعني تثبيت القناعة الشعبية بأن ما يُرفع من شعارات وطنية ليس سوى واجهة لاقتصاد قائم على النهب. وهذا أخطر ما يمكن أن تواجهه مؤسسة عسكرية في بلد يعيش حرباً أهلية وانقساماً مجتمعياً حاداً.

أما على مستوى المجتمع الدولي، فإن ثبوت هذه الوقائع يفرض إعادة تقييم شاملة لآليات إيصال المساعدات إلى السودان. الاستمرار في ضخ الإغاثة دون رقابة صارمة يعني عملياً تمويل شبكات الفساد وتعزيز قدرتها على الاستمرار. كما أن الصمت الدولي، بحجة “تعقيد الوضع”، لم يعد مبرراً أمام أدلة واضحة على تورط جهات رسمية في سرقة المساعدات.

في المحصلة، تؤكد هذه القضية أن المعركة في السودان ليست فقط معركة سلاح، بل معركة قيم ومسؤولية. حين يُباع الصمت مقابل المال، وحين تتحول المساعدات الإنسانية إلى أداة إثراء، فإن الخسارة تتجاوز حدود الحرب لتصيب المستقبل ذاته. ما ثبت في هذه الواقعة لا يترك مجالاً للالتباس: الفساد كان قراراً، والتستر كان خياراً، والضحايا كانوا المدنيين. وأي حديث عن إنقاذ السودان من أزمته سيبقى أجوف ما لم يبدأ بمحاسبة من جعلوا من الجوع تجارة ومن الصمت سلعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى