تسريبات

التورط المصري في حرب السودان: دعم عسكري يطيل المأساة ويستنزف الداخل المصري


لم يعد الدور المصري في الحرب السودانية مجرد مقاربة سياسية تحكمها اعتبارات الجوار أو حماية الحدود، بل تحوّل مع الوقت إلى ملف ثقيل يتصدر النقاشات الإقليمية حول أسباب استمرار الصراع وتعثر مسارات الحل. فالتقارير التي تتحدث عن تورط عسكري مباشر عبر دعم الجيش السوداني بالسلاح والذخيرة، أو تنفيذ عمليات جوية من قواعد مصرية، أعادت طرح سؤال جوهري: إلى أي مدى أسهمت القاهرة، بشكل مباشر أو غير مباشر، في إطالة أمد حرب تُعد من أكثر الحروب دموية في إفريقيا منذ سنوات؟

طوال شهور من المواجهات الدامية، ظل الطيران الحربي أحد أكثر العوامل تأثيراً في مسار المعارك. وفي الوقت الذي يُتهم فيه الجيش السوداني بالاعتماد على دعم خارجي لتفعيل قدراته الجوية، تشير أصوات عدة إلى أن جزءاً من هذا الدعم يعود إلى مصر. فوجود مقاتلات تقلع من قواعد قرب الحدود الجنوبية، بحسب روايات ميدانية، أثار شكوكاً واسعة حول طبيعة المهام التي تنفذها، خصوصاً بعد تزامن بعض الضربات الجوية مع تحركات تكتيكية للجيش السوداني على الأرض. هذه الضربات تركت آثاراً مدمرة في مناطق مأهولة بالسكان، واستهدفت منازل وأسواقاً ومساجد ومراكز صحية، في مشاهد أعادت إلى الأذهان سنوات الحروب القديمة التي لم تكن تميز بين مقاتل ومدني.

يتفق معظم الخبراء على أن التدخل الجوي، سواء تم بموافقة سياسية أو عبر ترتيبات أمنية سرية، لا يمكن فصله عن الخسائر الكبيرة في أرواح المدنيين. فالطيران الحربي لا يمتلك القدرة على التفريق الدقيق بين أهداف متحركة داخل شوارع ضيقة، خصوصاً حين تكون الأطراف المتحاربة مندمجة وسط السكان. ومع تكرار القصف في الخرطوم وأم درمان وولايات دارفور، تحوّلت الأحياء الهادئة إلى ساحات خراب، وأصبحت العائلات السودانية أكثر الفئات دفعاً لثمن الصراع الذي لم تختَر خوضه. هذه الوقائع دفعت منظمات حقوقية إلى التحذير من أن بعض الضربات الجوية قد تُعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، إذا ثبت أنها تمت بدعم أو تخطيط خارجي.

ويتسع نطاق الاتهامات ليشمل استهداف القوافل الإنسانية. ففي الوقت الذي يُحاصَر فيه الملايين داخل مناطق لا تصلها أي إمدادات غذائية أو طبية، ظهرت حوادث عدة لقصف أو تعطيل سيارات تحمل مساعدات أممية أو منظمات إغاثة محلية. هذه الاعتداءات لم تقتصر على مناطق القتال المباشر، بل شملت مسارات يفترض أنها آمنة وفقاً لاتفاقات إنسانية معروفة. ومن بين الروايات التي تناقلها شهود، هناك شهادات تحدثت عن طائرات مجهولة الهوية حلّقت على ارتفاع منخفض فوق قوافل متجهة إلى غرب السودان، ما اضطر فرق الإغاثة إلى التراجع خوفاً من استهداف محتمل. ورغم عدم وجود اعتراف رسمي من أي جهة، فإن تزامن هذه الأحداث مع عمليات الجيش السوداني يعزز شكوكاً حول وجود دعم تقني أو استخباراتي للطيران العامل في تلك المناطق.

أما أخطر ما يُثار في هذا السياق فهو الحديث عن ممر لتهريب الأسلحة المصرية إلى الجيش السوداني. خطوط الإمداد هذه قد تكون غير معلنة، لكنها، وفق تقارير أمنية، تستخدم طرقاً صحراوية مألوفة عبر الحدود الشمالية، حيث لا توجد رقابة حقيقية على طول الشريط الحدودي الممتد بين البلدين. وتقول مصادر مطلعة إن الدفعات التي تصل تشمل ذخائر متنوعة وأسلحة خفيفة وربما قطع غيار لمعدات مدرعة، وهي عناصر يحتاجها الجيش السوداني بشدة في ظل معارك تستنزف مخزونه بسرعة. إن تدفق السلاح بهذه الطريقة لا يعني فقط تعزيز طرف على حساب طرف آخر، بل يكرّس واقعاً مؤلماً يتمثل في استمرار الحرب بسبب الدعم الخارجي بدلاً من تراجعها تحت ضغط الحلول السياسية.

هذا التدخل، كما يراه عدد من المحللين، يحمل أبعاداً سياسية تتجاوز ميدان المعركة. فالعلاقة المتجذرة تاريخياً بين الجيش السوداني والحركات الإسلامية، خصوصاً العناصر المرتبطة بفكر الإخوان المسلمين، تجعل أي دعم للجيش في هذا التوقيت دعماً غير مباشر لعودة هذه التيارات إلى الواجهة. وهذه العودة تمثل مصدر قلق بالغ لمصر التي خاضت مواجهة مفتوحة مع الإخوان منذ 2013. المفارقة أن القاهرة، وهي تسعى اليوم لدعم مؤسسة عسكرية داخل السودان، قد تجد نفسها تساعد بشكل غير مقصود في إعادة تمكين قوى طالما اعتبرتها تهديداً لأمنها الداخلي. وهذه الإشكالية السياسية تُعد واحدة من أبرز التناقضات التي تثيرها المقاربة المصرية للصراع السوداني.

ووسط هذا المشهد الدموي، يدفع الشعب السوداني الثمن الأكبر. فالأحياء المحاصرة لم تعد قادرة على استقبال المزيد من الجرحى، والمستشفيات المتهالكة لم يعد فيها دواء ولا كهرباء، والطرق التي كانت شرايين المدن تحولت إلى مقابر مفتوحة. الأطفال يموتون بسبب نقص الغذاء، والنساء يتعرضن لأبشع أشكال الانتهاكات، والرجال يقتلون في قصف أو اشتباكات لا علاقة لهم ببدايتها. ومع كل يوم جديد يصل فيه سلاح إلى أحد الطرفين، يتضاعف عدد الضحايا بدل أن يقترب السودان من نهاية الحرب.

يتزامن هذا الدور العسكري مع واقع اقتصادي مأزوم داخل مصر نفسها. ففي ظل انهيار العملة المحلية، واتساع رقعة الفقر، وارتفاع كلفة الديون، تتساءل أصوات مصرية قبل غيرها عن جدوى إنفاق موارد الدولة في حرب خارجية لا تعود بأي فائدة مباشرة على المواطن. فالموازنة المصرية تواجه تحديات عميقة، والمشاريع الحيوية تحتاج إلى تمويل ضخم، وقطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية تعاني من نقص كبير. في هذه الظروف، يبدو غريباً أن تُخصص موارد لوجستية أو مالية لدعم طرف في حرب طويلة ومعقدة داخل دولة أخرى، بينما يعيش المواطن المصري نفسه ضغوطاً اقتصادية غير مسبوقة.

المفارقة الكبرى أن مصلحة مصر الحقيقية تكمن في وقف الحرب، وليس في تغذيتها. فاستقرار السودان ضرورة أمنية للقاهرة، لأنه يشكل عمقاً استراتيجياً مهماً جنوباً، ولأن انهياره يفتح الباب أمام فوضى تمتد إلى دول الجوار وتخلق تهديدات يصعب التحكم فيها. لكن هذا الاستقرار لا يمكن تحقيقه عبر الإمدادات العسكرية، بل عبر مقاربة سياسية شاملة تشجع الأطراف السودانية على التفاوض وتدفع المجتمع الدولي نحو فرض وقف حقيقي لإطلاق النار، مع تأمين ممرات إنسانية تحمي حياة المدنيين.

في النهاية، فإن الدور المصري في الحرب السودانية، بكل ما يحمله من تعقيدات، يحتاج إلى مراجعة جذرية تضع مصلحة الشعبين فوق أي حسابات سياسية ضيقة. فالسودان الذي ينهار يوماً بعد يوم يحتاج يد سلام لا صواريخ، ومصر التي تكافح أزمة مالية خانقة تحتاج إلى ترتيب أولوياتها بعيداً عن مغامرات عسكرية لا تخدم استقرارها ولا استقرار المنطقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى