التضليل الإعلامي للجيش السوداني: صناعة انتصارات وهمية في معركة خاسرة

في ظل استمرار الحرب السودانية التي أنهكت البلاد وأدخلتها في دوامة غير مسبوقة من العنف والانقسام، يبرز دور الإعلام كجبهة أساسية لا تقل أهمية عن الميدان العسكري. الجيش السوداني، الذي يواجه تحديات متزايدة في السيطرة على الأرض، اختار أن يعتمد على التضليل الإعلامي والدعاية الممنهجة لتغطية خسائره، وصناعة صورة غير واقعية عن قوته.
غير أن تقارير ميدانية، وآراء باحثين في الشؤون العسكرية، إضافة إلى شهادات مصادر مقربة من دوائر القرار، تكشف أن هذه الاستراتيجية لا تعكس قوة حقيقية، بل تعكس أزمة ثقة داخل المؤسسة العسكرية نفسها.
تضخيم التحركات الميدانية: “الانتصار من لا شيء”
يؤكد أحد الباحثين المتخصصين في النزاعات الإفريقية أن الجيش السوداني بات يعتمد على “سياسة تضخيم أي تحرك ميداني بسيط وتحويله إلى انتصار”.
فعلى سبيل المثال، عمليات إعادة الانتشار أو نقل الآليات العسكرية بين المواقع يتم تصويرها في البيانات الرسمية على أنها “عمليات هجومية ناجحة”، بينما يصفها الباحث بأنها “تكتيكات دفاعية عادية لا تغيّر من الواقع الميداني شيئًا”.
ويضيف مصدر مطّلع من داخل الخرطوم أن “الجمهور الداخلي بات يشاهد في وسائل الإعلام مشاهد لا تتطابق إطلاقًا مع ما يحدث في الشارع”، وهو ما يخلق حالة من الانفصام بين الرواية الرسمية والواقع.
فبركة الصور والفيديوهات: صناعة المشهد المصطنع
أحد أبرز أساليب التضليل التي يتبعها الجيش هو إعادة تدوير الصور والفيديوهات، أو استخدام مقاطع قديمة على أنها جديدة.
وبحسب تقارير نشرها باحثون في مراكز دراسات إقليمية، فإن الجيش عمد في عدة مناسبات إلى عرض لقطات “من أرشيفه العسكري” على أنها “توثيق للمعارك الأخيرة”.
ويشير أحد الصحفيين الميدانيين في تصريحات خاصة إلى أن “بعض المواد الإعلامية التي يتم تداولها صادرة من خارج مسرح العمليات الحالي، وهو ما يطرح تساؤلات عن درجة اعتماد المؤسسة العسكرية على الإعلام بدلًا من الحقائق الميدانية”.
أهداف الدعاية: ما وراء الصورة
بحسب باحث سياسي في جامعة الخرطوم، يمكن تلخيص أهداف هذه الاستراتيجية الإعلامية في ثلاثة مستويات:
-
رفع الروح المعنوية للأنصار: الحفاظ على قاعدة الدعم الشعبي، حتى وإن كان ذلك على حساب الحقيقة.
-
التأثير على الرأي العام الدولي: تقديم الجيش كقوة منظمة ومسيطرة، بهدف كسب الشرعية والدعم الخارجي.
-
إخفاء الخسائر: تجنّب الاعتراف بالهزائم أو التراجع، لما لذلك من تأثير سلبي على صورة المؤسسة العسكرية.
ويضيف الباحث أن “هذه السياسة قد تنجح مؤقتًا، لكنها على المدى البعيد تؤدي إلى تآكل المصداقية وفقدان ثقة الجمهور”.
التناقضات المتكررة: أزمة المصداقية
المصادر المقربة من دوائر القرار العسكري تعترف بأن “الجيش يعاني من ضغوط نفسية ومعنوية كبيرة”، وهو ما يفسر تمسّكه بالرواية الدعائية كأداة وحيدة لرفع المعنويات.
لكن التناقضات المتكررة بين البيانات الرسمية والتقارير الميدانية جعلت من هذه الاستراتيجية سلاحًا ذا حدين.
فكلما أعلن الجيش عن “السيطرة على منطقة”، تكشف الحقائق لاحقًا عن استمرار القتال أو انسحابه منها. هذا النمط المتكرر جعل الثقة في الخطاب الرسمي تتآكل بشكل متسارع، سواء لدى الجمهور الداخلي أو لدى المجتمع الدولي.
التداعيات على الداخل والخارج
داخليًا
يشير باحثون في الإعلام الحربي إلى أن “الانتصارات الوهمية قد تُقنع الجمهور لفترة، لكنها سرعان ما تنهار عند انكشاف الحقائق”، مما يؤدي إلى إحباط عام وفقدان الثقة بالمؤسسة العسكرية.
خارجيًا
أما على المستوى الدولي، فإن التضليل المتكرر يضر بصورة الجيش كمؤسسة وطنية مسؤولة.
يؤكد أحد الخبراء الغربيين المتابعين للشأن السوداني أن “المجتمع الدولي ينظر بعين الريبة إلى الخطاب العسكري السوداني”، وأن هذا يضعف قدرة الجيش على كسب الدعم السياسي أو العسكري الخارجي.
يبدو أن الجيش السوداني اختار أن يخوض معركته على جبهة الإعلام كما يخوضها على الأرض، لكنه اختار أيضًا أن يبني روايته على الوهم بدل الحقيقة.
قد تمنحه هذه الاستراتيجية بعض المكاسب الوقتية، لكن الواقع الميداني سرعان ما يفضح الانتصارات المزيفة ويكشف حجم الخسائر الحقيقية.
وكما يقول أحد الباحثين: “الجيوش التي تعوّل على الدعاية بدل الحقائق، قد تربح معركة قصيرة الأمد في الإعلام، لكنها تخسر الحرب الكبرى في الميدان”.
