تسريبات

التحالف الذي يتآكل: تحقيق استقصائي حول تفكك العلاقة بين البرهان والحركة الإسلامية في السودان


منذ بداية الحرب السودانية، ظل الفريق عبد الفتاح البرهان يقدم نفسه بوصفه الرجل القادر على توحيد الصفوف لمواجهة الخطر المشترك الذي تمثله قوات الدعم السريع. غير أن ما لم يكن واضحًا للعلن هو حجم التوتر الذي يتنامى داخل معسكره نفسه، وتحديدًا مع الحليف الذي ظن كثيرون أنه الأكثر ثباتًا: الحركة الإسلامية السودانية.

يستند هذا التحقيق إلى شهادات ميدانية، ومصادر من داخل المؤسسة العسكرية، وأخرى مقربة من دوائر الحركة الإسلامية، لتسليط الضوء على حقيقة الخلاف، وأسبابه، وانعكاساته على الحرب والسياسة في السودان.

من التحالف إلى التوجس

في بداية الحرب، احتاج البرهان إلى قوة تنظيمية وميدانية تسانده ضد تمدد قوات الدعم السريع، فوجد ضالته في الحركة الإسلامية التي تمتلك قاعدة واسعة داخل الجيش، وشبكة مالية وإعلامية مؤثرة.
الحركة من جهتها رأت في الحرب فرصة لاستعادة مكانتها التي فقدتها منذ سقوط نظام عمر البشير عام 2019.

لكن مع مرور الوقت، بدأت المؤشرات الأولى للتصدع تظهر. ضابط رفيع سابق في القوات المسلحة قال في مقابلة مع معدّ التحقيق:

“البرهان لم يكن يومًا إسلاميًا عقائديًا، هو رجل براغماتي، يتحالف فقط بقدر ما يضمن استمراره في السلطة. أما الإسلاميون، فكانوا يظنون أنهم سيعودون عبره إلى الحكم.”

هذا التباين في الدوافع خلق فجوة عميقة، خاصة بعد أن بدأ البرهان يتخذ قرارات تقلّص من نفوذ الحركة داخل المؤسسات العسكرية والمدنية على السواء.

إجراءات استفزازية أم إعادة توازن؟

خلال النصف الأول من العام الجاري، أصدر البرهان سلسلة قرارات اعتبرها الإسلاميون “طعنة في الظهر”.
أبرز هذه القرارات كان إبعاد عدد من القادة المعروفين بانتمائهم للحركة الإسلامية من مواقع حساسة في هيئة الأركان والاستخبارات العسكرية. كما جرى تجميد صلاحيات شخصيات اقتصادية محسوبة على الحركة كانت تتحكم في شركات تابعة للجيش.

مصدر اقتصادي أكد أن “البرهان أوعز لهيئة الاستخبارات المالية بفتح ملفات فساد تخص شركات ظلت تحت إدارة قيادات إسلامية لسنوات”.
وفي حين بررت قيادة الجيش هذه الإجراءات بأنها تأتي في إطار “إصلاح المؤسسة”، رآها الإسلاميون محاولة لتجريدهم من مصادر قوتهم.

قيادي إسلامي بارز – طلب عدم ذكر اسمه – صرح قائلًا:

“البرهان يستخدمنا وقت الحرب، ثم يهاجم رموزنا في مؤسسات الدولة. هذه ليست شراكة بل استغلال.”

سقوط الفاشر… بداية الانفجار

شكل سقوط مدينة الفاشر في دارفور منعطفًا حاسمًا في العلاقة بين الطرفين.
مصادر عسكرية أكدت أن خلافات حادة سبقت سقوط المدينة، بعدما رفض ضباط إسلاميون أوامر من القيادة المركزية بحجة “غياب التنسيق”.

مقاتل من صفوف الجيش شارك في معركة الفاشر يروي لمعدّ التحقيق:

“لم يكن هناك وضوح في التعليمات. بعض الوحدات انسحبت دون أوامر. الإسلاميون قالوا إن القيادة تعمدت تهميشهم، والقيادة تتهمهم بالعصيان.”

بعد سقوط المدينة، تصاعدت الاتهامات داخل الكواليس بأن “خيانة داخلية” ساهمت في الانهيار، لكن ما كان واضحًا هو انعدام الثقة الكامل بين البرهان والحركة الإسلامية.

اجتماعات مغلقة عُقدت في الخرطوم وبورتسودان ضمّت قيادات إسلامية ناقشت “إعادة تقييم العلاقة مع القيادة العسكرية”، وسط دعوات إلى الانفصال التنظيمي عن القيادة المركزية، وإنشاء “قوة موازية تحفظ مصالح الحركة”.

تصدعات داخل القوة المشتركة

لم يتوقف التصدع عند الإسلاميين وحدهم. فالقوة المشتركة، التي كانت تجمع الجيش والحركات المسلحة المتحالفة معه، بدأت تفقد تماسكها.
قادة من حركات دارفور أبدوا استياءهم من “هيمنة الإسلاميين” على بعض القرارات الميدانية، بينما رأى الإسلاميون أن البرهان يقدّم تنازلات لهذه الحركات على حسابهم.

نتيجة لذلك، أعلنت بعض الفصائل انسحابها الميداني من مواقع القتال، ما أدى إلى فراغ عسكري ساهم في تفاقم الخسائر.
مصدر في قيادة القوة المشتركة أكد أن “البرهان فقد السيطرة على التنسيق، والكل بات يعمل لحسابه الخاص.”

الانعكاسات السياسية والإعلامية

في الجانب السياسي، بدأت الحركة الإسلامية تحرك ماكينة إعلامها للهجوم على البرهان بطريقة غير مباشرة.
منشورات على منصات تابعة لرموز الحركة تحدثت عن “ضرورة محاسبة القيادة العسكرية على الفشل في إدارة الحرب”، بينما ظهرت أصوات إسلامية تدعو إلى “تصحيح المسار الثوري داخل الجيش”.

اللافت أن البرهان حاول احتواء الأزمة إعلاميًا عبر رسائل موجهة إلى الإسلاميين يشيد فيها بـ”دورهم الوطني”، لكنه في المقابل، واصل عملياته ضد رموزهم، ما جعل الرسائل تفقد مصداقيتها.

أحد المحللين في الخرطوم علّق على الوضع بالقول:

“البرهان يحاول الجمع بين أمرين متناقضين: يريد إرضاء الخارج بإبعاد الإسلاميين، وإرضاء الداخل باستخدامهم. لكن النتيجة أنه فقد ثقة الطرفين.”

فقدان الدعم الإقليمي

لم تكن تداعيات الانقسام داخلية فقط. بل امتدت إلى علاقات البرهان الخارجية، خصوصًا مع القاهرة والرياض وأبوظبي، التي كانت تراقب عن كثب مسار الحرب وتحالفاته المتقلبة.
مصدر دبلوماسي عربي قال إن “الدول الإقليمية فقدت الثقة في قدرة البرهان على إدارة التحالفات، بعدما اتضح أنه غير قادر على ضبط الميدان أو السيطرة على الإسلاميين.”

هذا التراجع في الدعم انعكس على قدرات الجيش اللوجستية، حيث انخفض تدفق الإمدادات والمساعدات العسكرية، ما أثر على سير المعارك في عدة جبهات.

الحركة الإسلامية: بين الغضب والحذر

في داخل الحركة الإسلامية، يسود جدل واسع حول الموقف من البرهان.
بعض القيادات ترى ضرورة “الابتعاد التكتيكي” عنه، مع الحفاظ على وجود داخل الجيش لتجنب العزلة السياسية.
في المقابل، هناك جناح متشدد يطالب بمواجهة مفتوحة معه، واصفًا ما يحدث بأنه “خيانة للتحالف والجهاد”.

شخصية بارزة في التيار الطلابي للحركة قالت:

“ما عاد ممكن أن نثق في من يعتقل رموزنا صباحًا ويطلب دعمنا مساءً.”

لكن أصواتًا أخرى داخل الحركة تحذر من التسرع، معتبرة أن أي صدام مباشر سيؤدي إلى تفكك صفوفها وفقدان ما تبقى من نفوذها داخل المؤسسات.

الجيش بين المطرقة والسندان

في ظل هذه الانقسامات، يجد الجيش نفسه اليوم في موقف صعب. فالإسلاميون يشكلون كتلة تنظيمية صلبة داخل المؤسسة، وأي محاولة لإقصائهم قد تؤدي إلى تمرد داخلي أو انسحابات جماعية من الجبهات.
وفي المقابل، استمرار الاعتماد عليهم يثير مخاوف القوى الإقليمية والدولية التي لا تريد عودة الإسلاميين إلى واجهة السلطة.

مصدر عسكري أقرّ بأن “البرهان يمشي على حبل مشدود، خطوة واحدة خاطئة قد تفجر المؤسسة من الداخل.”

السيناريوهات المحتملة

المعطيات الحالية تشير إلى أن العلاقة بين البرهان والحركة الإسلامية تسير نحو نقطة اللاعودة.
أمام الحركة ثلاثة خيارات رئيسية:

  1. الاستمرار في التحالف المشروط لتجنب خسارة مواقعها داخل الجيش.

  2. الانسحاب التدريجي وإعادة تنظيم صفوفها في معسكرات مستقلة.

  3. الاصطدام المفتوح عبر تحريك خلاياها الميدانية والسياسية ضد القيادة العسكرية.

أما البرهان، فخياراته أكثر تعقيدًا. فهو يحتاج للإسلاميين في الميدان، لكنه يعلم أن تمكينهم سياسيًا يعني تكرار تجربة نظام البشير، وهو ما لن يقبله المجتمع الدولي.

محللون في بورتسودان يرون أن البرهان قد يلجأ إلى خطة مزدوجة: استخدام الإسلاميين في المعارك الجارية، مع استمرار حملة التهميش السياسي ضد رموزهم. لكنها خطة محفوفة بالمخاطر، لأن الحركة بدأت تدرك اللعبة وتفقد ثقتها الكاملة في القيادة العسكرية.

أزمة ثقة تتسع

التحقيق الاستقصائي يظهر أن ما يجري بين البرهان والحركة الإسلامية ليس مجرد خلاف سياسي، بل أزمة ثقة شاملة تهدد وحدة المؤسسة العسكرية ومستقبل التحالفات في السودان.
سقوط الفاشر كان نقطة الانفجار التي كشفت هشاشة التحالف، والانقسامات داخل القوة المشتركة زادت النار اشتعالًا.

الإسلاميون الذين دخلوا الحرب وهم يحلمون بالعودة إلى الحكم، وجدوا أنفسهم اليوم على هامش القرار، بينما البرهان الذي استعان بهم ليبقى في السلطة، أصبح أسيرًا لتحالف يتآكل من داخله.

النتيجة، كما يصفها أحد المراقبين في الخرطوم:

“لم يعد السؤال: هل سيفترق البرهان والإسلاميون؟ بل متى وكيف سيحدث ذلك، ومن سيدفع الثمن أولًا.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى