أحداث

البناء على سفوح الجبال تحت المجهر مجددًا عقب كارثة ترسين


في إقليم دارفور الذي أنهكته الحروب والمجاعات والأزمات الإنسانية المتلاحقة، جاءت الكارثة هذه المرة من عمق الأرض، حيث اجتاح انزلاق أرضي عنيف قرية ترسين النائية الواقعة على سفوح جبل مرة، مخلّفًا دمارًا واسعًا في الأرواح والممتلكات. المشهد المأساوي الذي طغى على تضاريس المنطقة يعكس تصادمًا بين الطبيعة البركانية القديمة والظروف المناخية القاسية، إذ ابتلعت الكارثة بيوتًا طينية وسكانًا أبرياء، مضيفة فصلًا جديدًا من المعاناة في منطقة تتقاطع فيها الجغرافيا الخطرة مع هشاشة البنية البيئية.

كارثة ترسين تفتح باب التساؤلات حول الأسباب العلمية والوقاية المستقبلية

لم يعد السؤال بعد كارثة ترسين محصورًا في عدد الضحايا الذين تجاوزوا الألف وفقًا لتقديرات السلطات المحلية، بل امتد إلى محاولة فهم الأسباب العلمية وراء الانهيار الأرضي، والبحث عن سبل الوقاية في منطقة تعيش على وقع الكوارث الطبيعية والإنسانية. الحدث أعاد تسليط الضوء على الطبيعة الجيولوجية لجبل مرة، وعلى مدى استعداد المجتمعات المحلية للتعامل مع مثل هذه الكوارث المفاجئة.

جبل مرة: بركان خامد يحتضن تضاريس خطرة وصخور هشة

المهندس الاستشاري الجيولوجي مصطفى عثمان أحمد أوضح في تفسير علمي أن جبل مرة، الذي يحتضن قرية ترسين، هو بركان خامد يعود تاريخه الجيولوجي إلى حقبتي البليوسين والبلايستوسين، ويصل ارتفاعه إلى نحو ثلاثة آلاف قدم. ويتكون الجبل من صخور بازلتية وبركانية هشة، طف ورماد بركاني متماسك، وهي مواد متصدعة ومفككة بفعل النشاط البركاني القديم والتعرية، ما يجعل المنطقة عرضة للانهيارات. كما أن المنحدرات الحادة والانكسارات الطبيعية الناتجة عن البراكين القديمة تزيد من خطورة التضاريس المحيطة بالقرية.

الأمطار الموسمية والرماد البركاني وراء الانزلاق الكتلي العنيف

بحسب المهندس مصطفى، فإن الأمطار الموسمية الغزيرة تسربت إلى الفواصل الصخرية والتربة، ما أدى إلى تشبّعها بالمياه وفقدانها التماسك، وزيادة وزنها بشكل خطير. كما لعبت طبقات الرماد البركاني الطيني دورًا حاسمًا في تسهيل الانزلاق، إذ تتحول إلى مادة زلقة للغاية عند امتصاصها للماء. وأوضح في مقابلة مع راديو دبنقا أن ما حدث يصنف علميًا كانزلاق كتلي جبلي ضخم، حيث انفصلت كتلة صخرية من أعالي الجبل وانحدرت بسرعة هائلة نحو الوادي الذي تقع فيه القرية، مجتاحة المنازل ودفن سكانها تحت سيل من الطين والصخور. وأشار إلى أن التصدعات البركانية القديمة والانحدارات التي تتجاوز زاوية 35 درجة، إلى جانب ضعف الغطاء النباتي نتيجة النزاعات والإهمال البيئي، كلها عوامل ساهمت في تفاقم الانهيار. وأكد أن الانزلاقات الأرضية تحدث بشكل مفاجئ وسريع، ولا يمكن مقاومتها لحظة وقوعها، وهو ما يفسر حجم الكارثة في ترسين.

جبل مرة منطقة نشطة جيولوجيًا والانهيارات تهدد القرى المحيطة

يرى المهندس مصطفى أن جبل مرة يشكل منطقة نشطة جيولوجيًا من حيث الانزلاقات الأرضية، رغم أن بركانه خامد. ومع كل موسم أمطار، يبقى خطر الكارثة قائمًا، خصوصًا على القرى المبنية على السفوح والأودية. وأكد أن جبل مرة يمثل حزام انهيارات يجب التعامل معه بجدية، على غرار مناطق الانزلاقات في جبال الهيمالايا ومرتفعات شرق إفريقيا. ودعا إلى ضرورة اعتماد الرصد الجيولوجي المستمر باستخدام الأقمار الصناعية وتقنيات الرادار، وحظر البناء في المناطق عالية الخطورة، إضافة إلى بناء جدران دعم وتصريف مياه، وتعزيز الغطاء النباتي لتثبيت التربة في القرى المجاورة.

التغير المناخي والممارسات البشرية فاقمت هشاشة التربة

أشار المهندس مصطفى إلى أن التغير المناخي ساهم في زيادة شدة الظواهر الطبيعية، بين أمطار غزيرة وجفاف قاسٍ، ما أدى إلى تعرية التربة وانجرافها. كما أن ممارسات السكان مثل قطع الأشجار لإنتاج الفحم والوقود، في ظل غياب بدائل، فاقمت من هشاشة التربة. وأوضح أن غياب مؤسسات حكومية فاعلة تشرف على حماية الموارد الطبيعية ساهم في تفاقم الوضع، مشددًا على أن التغير المناخي والممارسات البيئية غير المستدامة لعبت دورًا كبيرًا في حدوث الانزلاق الأرضي.

صعوبة التنبؤ بالانزلاقات الأرضية وضرورة الحذر المجتمعي

وحول إمكانية التنبؤ بهذه الظواهر، أكد المهندس مصطفى أن الانزلاقات الأرضية تحدث فجأة ولا يمكن تحديد حجمها مسبقًا، ما يجعل التنبؤ بها أمرًا بالغ الصعوبة. وأشار إلى أن المؤشرات قد تكون لحظية، مثل هطول الأمطار على قمم الجبال، داعيًا الأهالي إلى الابتعاد عن مجاري المياه وسفوح الجبال عند ظهور هذه المؤشرات.

كارثة ترسين تكشف الحاجة إلى تخطيط عمراني ورقابة علمية

وصف المهندس مصطفى ما حدث في ترسين بأنه كارثة جيولوجية بامتياز، نتجت عن تفاعل الطبيعة البركانية القديمة مع الظروف المناخية القاسية. وشدد على أن غياب التخطيط العمراني السليم والرقابة العلمية يجعل عشرات القرى في دارفور وغيرها من مناطق السودان عرضة لمصير مشابه. وأكد أن الحل لا يكمن فقط في التدابير التقنية، بل في تحقيق السلام والاستقرار السياسي الذي يتيح للسلطات المحلية العمل على حماية الأرواح والممتلكات.

المعرفة العلمية وحدها لا تكفي لمواجهة الكوارث الطبيعية

اختتم المهندس مصطفى عثمان حديثه بالتأكيد على أن الانزلاقات الأرضية تحدث بشكل مفاجئ ولا يمكن مقاومتها، لكن يمكن تقليل خطرها عبر التخطيط السليم وإعادة توطين القرى بعيدًا عن مساقط المياه والمنحدرات. وأوضح أن المعرفة العلمية وحدها لا تكفي، بل يجب أن تتكامل مع خبرة الأهالي وإرادة سياسية جادة لصناعة مستقبل أكثر أمنًا واستقرارًا في المناطق المعرضة للكوارث الطبيعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى