أهداف طهران في السودان
مثّلت حرب السودان المندلعة في 15 أبريل 2023، ثم إعلان قائد الجيش السوداني الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان في أكتوبر 2023 عودة العلاقات السودانية الإيرانية بعد قطعها من الخرطوم في يناير 2016 إثر الهجوم على السفارة السعودية في طهران. سانحة ذهبية لإيران لاستعادة علاقاتها مع الخرطوم التي بدأت منذ وصول الإسلاميين للسلطة عبر إنقلاب عسكري قاده الرئيس السابق عمر البشير في يونيو 1989 قبل التحوّلات التي عصفت بعلاقة البلدين .بعد قرار السودان المشاركة في “عاصفة الحزم” لجانب المملكة العربية السعودية ضد الحوثيين باليمن في مارس 2015، وهو ما كان يعني خوض الحرب بشكل غير مباشر ضد إيران. وبالتالي لم يكن إعلان قطع العلاقات في يناير 2016 سوى تحصيل حاصل لإنهاء حقبة التعاون السوداني – الإيراني الممتد منذ تسعينات القرن الماضي.
عزّز البرهان قرار إستئناف العلاقات بين البلدين بعقد لقاء مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي على هامش مشاركتهما في القمة العربية الإسلامية الاستئنائية التي عُقدت بالعاصمة السعودية الرياض. تلتها في فبراير 2024 أول زيارة رسمية لوزير الخارجية وقتها السفير علي الصادق للعاصمة الإيرانية طهران.
وأشارت تقارير إعلامية لاحقًا إلى قيام طهران بإمداد الجيش السوداني بأسلحة متنوعة أبرزها مسيّرات من طراز “مهاجر”. كما ترددت أنباء خلال زيارة الوزير الصادق لطهران عن تقديمه “حزمة مطالب” للإمداد بالسلاح، لكن تلك الأنباء نقلت تحفظات إيرانية مخافة وقوع تلك الأسلحة في يد إسرائيل لعلاقة التطبيع بينها والخرطوم، ولذلك فإنّ طهران اقترحت إرسالها بمعية مستشارين. ولاحقًا في مارس 2024 ترددت أنباء عن طلب إيراني بإنشاء قاعدة عسكرية على سواحل السودان في البحر الأحمر مقابل إستمرار الإمداد بالسلاح، وهو ما قيل إنّ الخرطوم لم توافق عليه.
جابه قرار طهران إستئناف العلاقات مع السودان تعقيدات متشابكة. فتوجّهات “خرطوم اليوم” تختلف عن الأمس. وقائد الجيش البرهان هو شخصيًا صاحب إجراءات التطبيع الرسمي مع إسرائيل واللقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو برعاية يوغندية في عنتبي في فبراير 2020. ما يطرح سؤالًا أساسيًا حول أهداف طهران من المشاركة في حرب السودان الحالية دعمًا للبرهان.
بحسب الخبراء، أول الأهداف التي تسعي إيران لتحقيقها هو إظهار تفوّق صناعاتها العسكرية.وفعاليتها كما حدث خلال الحرب الروسية الأوكرانية.بعدما إستعانت القوات الروسية بالمسيّرات الإيرانية في مواجهة المسيّرات التركية والأمريكية التي استخدمتها القوات الأوكرانية. وبالتالي فحرب السودان هي ساحة ترويج وتسويق.وإثبات جودة المعدات العسكرية الإيرانية في المعارك العسكرية.
ثاني الأهداف الإيرانية مرتبط بمعطى ذي طابع مستقبلي. إذ إنّ مساندتها الجيش السوداني سيتيح لطهران بناء جسور وفتح قنوات تواصل مع مجموعات مساندة للجيش جزء رئيسي منها أصحاب توجهات أيدلولوجية إسلامية مناهضة للتطبيع. لا سيما مع إمكانية تصدّر هذه المجموعات للمشهد وزيادة تأثيرهم مستقبلًا إذا ما انتهت الحرب بإنتصار عسكري أو سياسي للجيش والمجموعات المساندة له.
هدف طهران الثالث من الوجود في مسرح الحرب السوداني “تكتيكي”.فالسودان لا يقع ضمن دائرة النفوذ الإستراتيجي المرتبط بإيران سياسيًا أو مذهبيً. مقارنة بساحات عربية أخرى كالعراق وسوريا ولبنان وحتى اليمن مؤخرًا، وحتى الصلة مع “خرطوم البشير” في تسعينيات القرن الماضي تأسست على تلاقي المصالح والخصوم. ولاحقًا إنهار هذا التلاقي المصلحي بقرار السودان المشاركة في حرب اليمن ضد طهران، ومساندة نطاق عمقه الإستراتيجي التاريخي بجانب مصر ودول منطقة الخليج العربي في مواجهة المشروع الإيراني.
كما لا يمكن تجاهل ربط البعض التحركات الإيرانية في السودان مجددًا منذ أكتوبر الماضي. بغرض تعزيز وجودها وتمركزها على سواحل البحر الأحمر. ولتشديد حصار حلفائها الحوثيين باليمن لهذا البحر، وهو هدف مبتغى إلا أنّ تجارب الأمس بعد رسو القطع البحرية الإيرانية عند سواحل السودان في العام 2012، وما تردد عن رفض السودان في مارس الماضي السماح لطهران ببناء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر. يُظهر أنّ التطابق الكامل مع التوجهات الإيرانية والإنخراط الكامل في مشروع طهران ضد القوى العربية والإقليمية والدولية هو أمر غير وارد من الخرطوم في الوقت الراهن أو حتى مستقبلًا.
عليه فإنّ الغرض من التواجد الإيراني غير المعلن في السودان هو هدف بعيد المدى لتوظيف هذا الوجود المفترض ضمن “لعبة المقايضات” الإيرانية للخروج من المسرح السوداني نظير تحقيق.وتثبيت مكاسب بمواقع أخرى تُمثّل عمقًا إستراتيجيًا لطهران. بمعنى تخليها عن نفوذ فرعي أو ثانوي لتعزيز التموضع في مواقع ذات أهمية إستراتيجية وسياسية ودينية ومعنوية أكبر.
لكن يبقى أنّ المعضلة الأساسية للتصورات الإيرانية تكمن في تأسيسها الكامل على فرضية حسم الجيش السوداني وأنصاره للحرب عسكريًا. بما يضمن وجودهم وفعاليتهم السياسية مستقبلًا. ولذلك فإنّ نقطة ضعف هذا التصور تتصل بغياب تداعيات سيناريو آخر لا يحقق فيه الجيش الإنتصار العسكري أو تحقيق صيغة تضمن إستمرار تأثيره وأنصاره خاصة المجموعات الإيدلوجية الإسلامية في المشهد السياسي. وحدوث هذا السيناريو سيجعل طهران أمام خيارين لا ثالث لهما إما إنخراطها بكل ثقلها لترجيح كفة الجيش ومناصريه مع ما يستدعيه ذلك من تكلفة عسكرية واقتصادية وسياسية عليها. أو الاضطرار للانكفاء والاكتفاء بما تيسّر لها من مكاسب على مسرح المقايضات الإقليمية والدولية.