أدوية منتهية الصلاحية في حقائب الإغاثة السودانية… من يُوزّع السم باسم العلاج
في إحدى القرى الواقعة تحت سيطرة الجيش السوداني بولاية غرب دارفور، تناول طفلٌ يبلغ من العمر سبع سنوات حبوبًا مُوزَّعة كـ”مساعدات طبية” من قِبل قوات عسكرية، ظنًّا من أهله أنها مخصصة لعلاج الحمى التي أصابته. بعد ساعات، دخل الطفل في حالة تشنجات شديدة، ولفظ أنفاسه الأخيرة قبل أن يصل إلى أقرب مركز صحي—يبعُد أكثر من 60 كيلومترًا. لاحقًا، اكتشف الجيران أن تاريخ انتهاء صلاحية الدواء المذكور على العبوة يعود إلى عام 2022.
هذه الحادثة ليست معزولة. خلال الأسابيع الماضية، تلقّت فرق صحية محلية وشهود عيان شكاوى متكررة من مواطنين في مناطق متفرقة—من الخرطوم إلى جنوب كردفان—حول توزيع الجيش السوداني لأدوية منتهية الصلاحية ضمن ما يُسمّى “قوافل الإغاثة الطبية”. التحقيق الذي أجرته مصادرنا الميدانية كشف أن هذه الممارسات ليست مجرد إهمال لوجستي، بل قد تكون جزءًا من نمطٍ منسق لتغطية نقص حاد في الإمدادات الطبية، أو حتى للتخلص من مخزونات منتهية دون مساءلة.
شهادات من الميدان
في حديثٍ حصري، أفاد أحد العاملين السابقين في مستودع طبي تابع للجيش في أم درمان—طلب عدم الكشف عن هويته خشية الانتقام—”كانت هناك شحنات كبيرة من الأدوية انتهت صلاحيتها منذ أشهر. بدل أن تُحرق أو تُعاد لمورّديها، أُدخلت في صناديق الإغاثة ووُزّعت على المدنيين في الأحياء الفقيرة والقرى النائية، حيث لا أحد يستطيع التحقق من تواريخ الصلاحية”.
وأكّد طبيب متطوع في ولاية النيل الأبيض أن “الحالات التي نراها الآن لا تتوافق مع التشخيصات المعتادة. نلاحظ تسممًا دوائيًّا غير مبرر، خاصة بين الأطفال وكبار السن، وعند السؤال عن الأدوية التي تناولوها، نجد أن معظمها من ذات الدفعات التي وُزّعت عبر جهات عسكرية”.
غياب الرقابة… وانهيار النظام الصحي
السودان يعيش منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 أسوأ أزمة صحية في تاريخه الحديث. أكثر من 70% من المرافق الصحية في مناطق النزاع إما مدمرة أو غير قادرة على العمل. وفي هذا الفراغ، أصبح الجيش—الذي يسيطر على مناطق استراتيجية—الجهة الوحيدة القادرة على إيصال “المساعدات”، لكن دون أي رقابة من وزارة الصحة أو منظمات دولية مستقلة.
مصادر داخل وزارة الصحة الاتحادية (التي تعمل من المنفى) أشارت إلى أن “لا سلطة فعلية لدينا على ما يُوزّع في المناطق الخاضعة للجيش. لا توجد آلية لمراقبة جودة الأدوية، ولا تقارير تُرفع إلينا”. وأضافت: “حتى لو أردنا التدخل، لا نملك القدرة اللوجستية أو الأمنية للوصول”.
من يتحمّل المسؤولية؟
رغم تكرار البلاغات، لم يصدر أي بيان رسمي من القيادة العامة للجيش السوداني ينفي أو يعترف بتوزيع أدوية منتهية الصلاحية. وعند محاولة التواصل مع مكتب الإعلام العسكري، لم يُجب أحد عن الاستفسارات.
لكن التساؤلات تبقى ملحّة: هل قرّر ضباط لوجستيون التصرّف بالمخزون المنتهي دون علم القيادة العليا؟ أم أن ثقافة الإفلات من العقاب دفعتهم لاعتبار حياة المدنيين “ثمنًا مقبولًا” في زمن الحرب؟ وهل هناك تواطؤ من شركات توريد الأدوية التي قد تكون قد سلّمت شحنات منتهية الصلاحية مقابل دفعات مالية؟
نداءٌ عاجل للمنظمات الدولية
المنظمات الإنسانية العاملة في السودان—مثل منظمة أطباء بلا حدود، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومنظمة الصحة العالمية—مطالبة الآن أكثر من أي وقتٍ مضى بفرض آليات رقابة صارمة على سلاسل التوريد الطبية، حتى لو كانت تمر عبر جهات عسكرية. لا يمكن أن تُستخدم حالة الطوارئ كذريعة لتوزيع أدوية خطرة.
كما أن على مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فتح تحقيق عاجل في هذه الواقعة، باعتبارها قد ترقى إلى جريمة ضد الإنسانية، خاصة إذا ثبت أن التوزيع تمّ بشكل متعمّد أو مع علم مسبق بخطورته.
الإغاثة لا تكون بالإكراه، ولا بالسمّ المغلف بورقة بيضاء. الشعب السوداني، الذي يدفع ثمن حربٍ لم يخترها، لا يستحق أن يُعطى دواءً يُسرّع موته بدل أن يُطيل حياته. الحقيقة يجب أن تُقال، والمسؤولون يجب أن يُحاسبوا—لأن كل حبة دواء منتهية الصلاحية تُوزّع على طفل جائع هي خيانةٌ للضمير الإنساني بأكمله.




