أدخنة قذائف الحرب تعطل دخان مصانع الخرطوم
كبدت حرب الخرطوم قطاع الإنتاج الصناعي في السودان ورجال الأعمال والمستثمرين الأجانب والعمال خسائر فادحة نتيجة حرق وتدمير المصانع بشكل كامل وجزئي، فضلاً عن عمليات سلب ونهب للمعدات وقطع الغيار وغيرها من المواد الخام وأدوات التشغيل المختلفة، حيث يبلغ عدد المنشآت أكثر من خمسة آلاف تتوزع على 46 قطاعاً، أبرزها الصناعات الغذائية والبلاستيكية والجلدية والكيماوية والملابس والأدوية.
ويوجد أكثر من 80 في المئة من إجمالي مصانع البلاد بالعاصمة، وأسهم التخريب في تعطل الإنتاج وتدمير مصانع عملاقة استغرق تأسيسها أعواماً عدة، وصرفت عليها أموال ضخمة، وفقدت مئات الأسر نحو 100 ألف وظيفة من بينها فئات عمالية، علاوة على نزوح ولجوء آخرين إلى الولايات ودول الجوار مثل مصر وإثيوبيا وتشاد طلباً للأمان.
تشرد ومعاناة
إلى ذلك، تعرض 300 مصنع ومؤسسة إنتاجية للدمار الكلى والجزئي ونهبت المعدات والمخارن، مما أحدث خسائر كبيرة في أوساط رجال الأعمال، وتوقفت 80 في المئة من الأعمال اليومية بالخرطوم، مما أثر في حياة أكثر من ستة ملايين من سكان مدن العاصمة الثلاث بحري وأم درمان والخرطوم.
الفاتح محمد طه، الذي عمل ثمانية أعوام في مصنع لإنتاج الملابس، قال إنه “ظل يكابد حياة شاقة منذ تسريحه من العمل في مايو (أيار) الماضي، وانتقل إلى ولاية الجزيرة جنوب الخرطوم، واضطر إلى العمل في أحد المطاعم براتب لا يفي بالحاجة، في بيئة يطغى عليها الاستغلال وتتطلب مجهودات كبيرة مقارنة بعمله طوال الفترة الماضية”.
وأضاف طه، “أصحاب المصانع تركونا نعيش أوضاعاً صعبة للغاية، هم بالفعل تضرروا، ولا توجد قرارات رسمية في شأن التعامل معنا وسط هذه الظروف، نأمل في أن تتوقف الحرب في وقت قريب حتى نستطيع العودة إلى حياتنا الطبيعية أو على أقل تقدير معرفة مصيرنا فيما يتعلق بالحقوق ومواصلة العمل من عدمه”.
وتابع المتحدث، “هناك عدد من المصانع نقلت نشاطها إلى دول الجوار، خصوصاً مصر وإثيوبيا، كما اتجهت أخرى لولايات البلاد الآمنة، من ثم فإن هذا الواقع يشير إلى أزمة في الوقت الحالي والمستقبل تواجه مئات الموظفين والعمال الذين ليس في مقدورهم السفر خارج السودان لمواصلة العمل أو إيجاد فرصة بالمصانع التي تعمل في الأقاليم”.
خسائر وأضرار
من جهته رأى حسن سعيد نعمان، وهو صاحب مصنع للصابون أن “حجم الدمار الذي تعرضت له المصانع في الخرطوم لم يكن يخطر على بال أحد، وأسهم ذلك في خسائر فادحة وأضرار كبيرة لرجال الأعمال والمستثمرين، فضلاً عن فقدان آلاف الموظفين والعمال مصادر الرزق، بخلاف مئات الحمالين وأصحاب عربات الكارو”.
ونوه نعمان بأنه “أغلق مصنعه منذ أبريل (نيسان) الماضي، وسرح عماله ومنحهم راتب ثلاثة أشهر وتوقف نهائياً وقرر الهجرة إلى خارج البلاد بحثاً عن والأمان لأن الوضع الحالي لا يبشر بتوقف الحرب وعودة الاستقرار بصورة طبيعية”، على حد تعبيره.
وواصل القول، “خسرت كثيراً، وتعرض المصنع للسلب والنهب، ولا أرغب في استئناف العمل حتى حال توقف الصراع المسلح لعدم وجود ضمانات أمنية وصحية في الخرطوم، علاوة على هجرة الموظفين والعمالة المهرة بصورة نهائية”.
بدائل ومعالجات
واعتبر رئيس لجنة تسيير غرفة الصناعة بولاية الجزيرة عبدالوهاب عبدالرازق سليمان أن “ما حدث في الخرطوم يعد تدميراً كاملاً للبنى التحتية للصناعة، وبحسب التقديرات الأولية فإن حجم خسائر القطاع بلغ نحو 50 مليار دولار، ونتيجة لذلك تأثرت البلاد في إنتاج المواد الغذائية التي يحتاج إليها المواطنون”.
وبين سليمان أن “اتحاد ولاية الجزيرة وبالتعاون مع السلطات استوعب عدداً كبيراً من رجال الأعمال الآتين من العاصمة، ووفرت لهم إدارة الاستثمار بعض المناطق الصناعية والأراضي، فضلاً عن استضافة في المصانع الموجودة بالولاية، كما أن هناك آخرين جلبوا المعدات والماكينات من الخرطوم إلى مدينة ود مدني لاستئناف العمل من جديد، وفي المقابل انتقل عدد من مصانع العاصمة إلى مدن سودانية في الولايات الآمنة مثل ود مدني وسنار وربك والقضارف وكوستي وعطبرة وشندي”.
وأشار رئيس لجنة تسيير غرفة الصناعة إلى أنهم “في ولاية الجزيرة يعملون بطاقة كبرى من أجل تعويض الفاقد من صناعات العاصمة، بخاصة إنتاج الدقيق”. ونبه إلى وجود مشكلات عدة في المنطقة الصناعية بمارنجان ومدينة المناقل، من بينها أزمة انقطاع الكهرباء التي تعد الأساس في عملية الإنتاج إلى جانب الاستهلاك الكبير للوقود في ظل ارتفاع أسعاره والجبايات والرسوم غير المقننة التي تفرضها المحليات”.
وشدد سليمان على ضرورة تفعيل خدمة القروض طويلة المدى بعد توقف الحرب والاستفادة من منح الدول الصديقة التي تقدم المعينات والهبات والأموال، فضلاً عن التخطيط السليم من أجل أن يتعافى القطاع الصناعي في السودان ويعود لسابق عهده”.
آثار اقتصادية
وفي هذا الصدد يشير المتخصص الاقتصادي باسم عباس إلى أن “النهضة الصناعية في السودان كانت تغطي حاجات البلاد من مواد غذائية وأدوية وغيرها، لكن للأسف الشديد هذه الصناعات تركزت في ولاية الخرطوم، وعقب اندلاع الحرب تعرض القطاع الصناعي لحرق وتدمير وسلب ونهب، مما أدى إلى انهياره”.
وأضاف عباس، “عمال المصانع يرتبط رزقهم بالعمل في هذه المهنة، لكن هذه الكارثة شردت آلافاً من الموظفين والفنيين والعمال المهرة دون التزامات من أصحاب المصانع، وهناك مؤسسات أوقفت العاملين فيها من الأشهر الأولى لبداية الصراع المسلح”.
ولفت المتخصص الاقتصادي إلى أن “مصانع عدة نقلت نشاطها إلى دول الجوار مثل مصر وإثيوبيا، وترتب على ذلك فقدان الأسر لعدد كبير من مصادر الرزق، أما بالنسبة لرجال الأعمال والمستثمرين الأجانب، فإنهم فقدوا البنى التحتية ورؤوس أموالهم، وهذا يعني خروج البلاد نهائياً على المدى القريب والمتوسط من هذا النشاط”.
وأوضح عباس أن “الفترة الأولى لبداية الحرب شهدت حدوث فجوة كبيرة في بعض الصناعات مثل الصابون، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار، ليلجأ التجار إلى الاستيراد من دول الجوار، وهو ما أفقد السودان العملة الأجنبية، وفي المقابل تراجع الجنيه إلى مستويات غير مسبوقة، كما أن نشاط المصانع السودانية خارج البلاد ودخول المنتج مرة أخرى يسهم في تقليل مصادر دخل الدولة من الرسوم المفروضة من التزامات تجاه المواطنين، ويضيف لتلك الدول مصدر دخل كبيراً لأن السلع المستوردة تأتي برسوم صادر من الخارج”.