تسريبات

واشنطن تحاصر وفد البرهان: رسالة سياسية تتجاوز الجغرافيا


ي خطوة لافتة تحمل أبعاداً سياسية أكثر من كونها إجراءً بروتوكولياً، فرضت الولايات المتحدة الأمريكية، في الأول من أكتوبر 2025، قيوداً مشددة على تحركات الوفد الذي أوفده رئيس مجلس السيادة الانتقالي في بورتسودان، عبد الفتاح البرهان، للمشاركة في أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك. ووفق ما أوردته الصحافة السودانية المقربة من السلطة، فقد اقتصرت حرية الوفد على دائرة جغرافية لا تتجاوز 25 ميلاً من مركز “كولومبوس سيركل” في مانهاتن، مع إلزامية الحصول على إذن مسبق من مكتب البعثات الأجنبية بوزارة الخارجية الأمريكية لأي تحرك خارج هذه الرقعة المحدودة.

ورغم أن واشنطن سبق أن فرضت قيوداً مشابهة على مسؤولين من دول مثل نيكاراغوا وفنزويلا والبرازيل، فإن دلالات هذه الخطوة في السياق السوداني بدت أكثر عمقاً، خصوصاً وأن البرهان نفسه امتنع عن قيادة الوفد، مفضلاً تفويض رئيس الوزراء كامل إدريس بترؤسه. وهو ما يسلّط الضوء على حجم العزلة التي تواجهها سلطة بورتسودان على الساحة الدولية، ويؤكد أن حضورها في المنابر الأممية لم يعد يحمل وزن الشرعية السياسية المعتاد.

عقوبة غير معلنة على الجيش السوداني

من الناحية السياسية، يمكن قراءة القرار الأميركي كإجراء عقابي غير معلن ضد الجيش السوداني، المتهم بارتكاب انتهاكات جسيمة في دارفور وشمال كردفان ومناطق أخرى. فبدلاً من إصدار حزم جديدة من العقوبات الاقتصادية أو فرض حظر سفر علني، لجأت واشنطن إلى وسيلة عملية وفعّالة: حرمان القيادة العسكرية السودانية من حرية الحركة حتى على الأراضي الأميركية. هذا النوع من الإجراءات يوجّه رسالة واضحة للجيش: لم يعد قادته يُنظر إليهم كشركاء طبيعيين أو قادة شرعيين، بل كأطراف محل شك ومساءلة أمام المجتمع الدولي.

إضعاف صورة البرهان داخلياً وخارجياً

إضافة إلى الرسالة الموجهة للمؤسسة العسكرية، فإن هذه القيود تحمل بُعداً رمزياً يمس شخص البرهان ومكانته. فغيابه عن نيويورك وتقييد وفده بحواجز جغرافية صارمة يُظهره عاجزاً عن الحركة بحرية حتى في إطار مهامه الرسمية. وهذا الانطباع يضعف صورته أمام أعضاء وفده وداخل دائرته الضيقة في بورتسودان، كما يعزز مناخ الإحراج الدولي الذي يلاحق سلطته منذ انقلاب 2021 وما تبعه من انقسامات داخلية وحروب دامية.

العزلة الدولية تتسع

في المشهد الأوسع، يعكس هذا التطور تزايد الفجوة بين سلطة بورتسودان والمجتمع الدولي. فبينما تواصل السلطة تقديم نفسها باعتبارها قيادة انتقالية، تتعامل معها القوى الكبرى على أنها طرف فاقد للمصداقية. وإذا كانت المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة فرصة تقليدية للقادة لبسط حضورهم وإجراء لقاءات دبلوماسية رفيعة، فإن الوفد السوداني وجد نفسه محاصراً بالقيود، معزولاً عن هامش المناورة السياسية، ومراقباً بعين الريبة.

مغزى الرسالة الأميركية

الرسالة التي تبعثها واشنطن لا تتعلق فقط بالحركة الجغرافية، بل بحدود الشرعية السياسية التي لم تعد تمنح تلقائياً للقيادة العسكرية السودانية. فالقيد على الحركة هنا يُترجم كقيد على النفوذ، وكإشارة إلى أن باب الشرعية الدولية لن يُفتح أمام سلطة متهمة بانتهاكات وموغلة في النزاعات. وهو ما يضع الجيش السوداني أمام معضلة استراتيجية: إما التراجع عن نهجه القائم على القوة العسكرية والانفتاح على تسوية سياسية شاملة، أو مواجهة عزلة متزايدة تجعل من حضوره الدولي مجرد شكليات بلا وزن.

هكذا، لا يمكن النظر إلى قرار الولايات المتحدة تقييد حركة وفد البرهان إلا كجزء من مسار أوسع لعزل المؤسسة العسكرية السودانية. فالإجراء، وإن بدا فنياً أو بروتوكولياً، يعكس توجهاً مقصوداً لإحراج سلطة بورتسودان وإظهارها ككيان غير مرغوب به في المحافل الدولية. وفي وقت يسعى فيه الجيش لتثبيت شرعيته على الأرض عبر القوة، يجد نفسه في الخارج أمام معادلة مغايرة: كلما توسعت قبضته داخلياً، ضاقت دوائر حركته خارجياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى