أحداث

من الدفاع إلى الفوضى.. مخاطر انتشار السلاح بين المدنيين في السودان


كان الهدف المُعلن هو حماية الأحياء من قوات الدعم السريع أو المجموعات الخارجة عن القانون، ولكن ما حدث فعليًا كان العكس تمامًا، حيث تحوّلت بعض مناطق البلاد إلى إقطاعيات من المليشيات الصغيرة، يحمل فيها كل شخص سلاحه باعتباره تصريحًا بالقوة والسيطرة والابتزاز.
منذ الأشهر الأولى للحرب، بدأت جهات رسمية – بينها الجيش السوداني وبعض الوحدات الأمنية – بتوزيع السلاح على المدنيين ضمن ما أُطلق عليه “حملات الاستنفار الشعبي”.
في عدد من الأحياء بالعاصمة الخرطوم ومدن مثل شندي ونهر النيل، ظهر أفراد يرتدون زيًا عسكريًا مختلطًا، يحملون البنادق، ويقيمون نقاط تفتيش تحت اسم “حماية الحي” أو “الدعم الشعبي”. لكنّ توزيع هذا السلاح لم يكن مصحوبًا بأي منظومة ضبط أو توثيق، إذ تشير تقارير ميدانية إلى أن الآلاف من هذه الأسلحة تم تسليمها دون تسجيل أرقامها التسلسلية أو توثيق هوية الأشخاص المستلمين أو أخذ تعهّدات قانونية ملزمة.
و في مدينة الثورة بأمدرمان، يؤكد ناشط محلي أن بعض الشباب استلموا بنادق كلاشينكوف و ملابس عسكرية في مركز محلي تابع للجيش، دون أي إجراءات إدارية. لا قوائم أسماء، ولا كشوفات، ولا سجلات للأرقام التسلسلية للأسلحة.
وهذا ما أكدته تقارير نشرتها منصات إعلامية مثل ( عاين، وسودان ميديا فورم )، والتي وثّقت شهادات لسكان من الخرطوم وشمال السودان حول انتشار السلاح دون رقابة، وتحوله من أداة للدفاع إلى وسيلة للابتزاز.
الخطورة لا تتوقف عند انتشار السلاح، بل تتفاقم عندما يكون حاملوه من المدنيين غير المدربين عسكريًا.
و في إحدى قرى ولاية الجزيرة، أدى شجار بسيط في حفل زواج إلى إطلاق نار تسبب في مقتل شاب في العشرينات من عمره، بعدما أطلق مستنفر محلي النار بالخطأ من بندقيته. الجيران أكدوا أن الشاب لم يكن يتقن استخدام السلاح، وأنه حصل عليه في مركز توزيع قبل أسبوع فقط.
أما في سوق شعبي بشرق السودان، فقد استُخدم سلاح أحد المستنفرين في عملية سرقة وتهديد مُسلح ضد تجار محليين، الأمر الذي أثار الذعر بين السكان، ودفع البعض إلى إغلاق محالهم نهائيًا.

فرض أتاوات

الظاهرة الأكثر إثارة للقلق تمثلت في تحوّل حاملي السلاح من “حماة” للأحياء إلى مراكز سلطة موازية تفرض إتاوات وتبتز المواطنين.
في مدينة شندي بولاية نهر النيل شمالي السودان أُبلغ عن انتشار نقاط تفتيش يديرها مسلّحون يرتدون الزي المموه ويطلبون “رسوم مرور” من الشاحنات وأصحاب المحال.
وفي الخرطوم، أكد شهود عيان أن بعض هؤلاء الشباب فرضوا مبالغ على أصحاب المركبات مقابل “الحماية من الدعم السريع”، بينما لم تكن هناك أي تهديدات حقيقية. وهكذا، تحول السلاح إلى مصدر رزق، وبات يُستغل كوسيلة لكسب العيش، في ظل انهيار مؤسسات الدولة وغياب فرص العمل.
التقارير الحقوقية الدولية تعزز هذه الصورة القاتمة. منظمة العفو الدولية نشرت في يوليو 2024 تحقيقًا أكدت فيه أن ملايين قطع السلاح دخلت السودان عبر طرق غير قانونية، وتم تهريب بعضها من دول مثل تركيا والولايات المتحدة والصين، دون رقابة حكومية أو تسجيل رسمي.

وقدّرت المنظمة أن عدد الأسلحة الصغيرة المنتشرة في السودان ارتفع من نحو 2.2 مليون قبل الحرب إلى أكثر من 6 ملايين قطعة بحلول منتصف 2025، معظمها في يد جهات غير نظامية.
أمام هذا الواقع، تبرز الحاجة الملحة لوضع استراتيجية شاملة لنزع السلاح من أيدي المدنيين، تبدأ بحصر شامل لكل قطعة منتشرة في الأحياء والأسواق، مرورًا بإنشاء قاعدة بيانات متكاملة، وتفعيل القضاء المحلي والشرطة المدنية، وليس انتهاءً بإطلاق برامج بديلة لتأهيل حاملي السلاح وإدماجهم في مشاريع تنموية ومهنية.
المشكلة لم تعد أمنية فقط، بل اقتصادية وثقافية أيضًا، ما دام السلاح هو الوسيلة الوحيدة للكسب أو النجاة، فإن حمله سيستمر.
ثقافة السلاح، التي ولدت من رحم الحاجة إلى الحماية، تحوّلت إلى ثقافة سيطرة وتفوّق وقمع. في السودان اليوم، لا تسأل من يملك السلاح “لماذا؟”، بل اسأل “متى سيفرض به سلطته؟” – وحين تغيب الدولة، لا يتبقى للمواطن إلا أن يخاف ممن كان من المفترض أن يحميه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى