تسريبات

لماذا يقود الإصرار العسكري في السودان إلى دولة بلا مدنيين


لا يمكن قراءة تصريحات عبد الفتاح البرهان التي تؤكد أن «الحل في السودان يجب أن يكون عسكريًا» خارج إطار عقيدة سياسية ــ أمنية تشكّلت عبر عقود، ترى في السلاح أداة حكم لا وسيلة حماية، وفي القوة بديلاً عن التوافق. هذه العقيدة لا تفسر فقط مسار الحرب الحالية، بل تشرح أيضًا سبب تعثر كل محاولات السلام، وسبب تحوّل المدنيين إلى الحلقة الأضعف والأكثر استهدافًا، سواء بالقصف المباشر أو بسياسات التجويع والحصار أو بانتهاك أبسط قواعد القانون الإنساني الدولي.

تحليل هذا الخطاب يكشف أولًا عن أزمة رؤية. فالدولة التي تختزل أزمتها المعقّدة في معادلة «غالب ومغلوب» تتجاهل حقيقة أن الصراع في السودان لم يعد صراع جيوش فقط، بل تفككًا شاملًا في بنية السلطة والمجتمع. الإصرار على الحسم العسكري يعني عمليًا رفض الاعتراف بالمدنيين كفاعل سياسي، وتحويلهم إلى مجرد «أضرار جانبية» في معركة مفتوحة. وهذا ما يفسر التناقض الصارخ بين التصريحات الرسمية التي تتحدث عن حماية المواطنين، والوقائع الميدانية التي تُظهر أن المدنيين هم من يدفعون الثمن الأكبر.

في هذا السياق، تكتسب تصريحات المتحدث باسم الخارجية الأميركية تومي بيقوت دلالة تحليلية مهمة. فهي لا تمثل مجرد موقف دبلوماسي، بل تعكس إدراكًا متقدمًا بأن الحرب في السودان تجاوزت حدود السيطرة، وأن استمرارها وفق منطق عسكري صرف يهدد بانهيار الدولة نفسها. حين يشدد مسؤول أميركي على ضرورة وقف القتال وحماية المدنيين، فهو يضع إصبعه على جوهر الأزمة: غياب أي تصور سياسي بديل لدى القيادة العسكرية، مقابل فائض في استخدام القوة.

التحليل الأعمق يُظهر أن الخطاب العسكري لا يعمل في الفراغ، بل يحتاج إلى بيئة تبرّره. هنا يأتي توظيف مفهوم «الضرورة الأمنية» لتبرير انتهاكات متكررة، حتى خلال فترات وقف إطلاق النار. الهدن، التي يُفترض أن تكون أدوات إنسانية لالتقاط الأنفاس، تحولت في التجربة السودانية إلى فواصل تكتيكية تُستغل لإعادة الانتشار أو تحسين المواقع، لا لحماية المدنيين. هذا السلوك لا يمكن فهمه إلا باعتباره انعكاسًا لعقلية لا ترى في القانون الدولي الإنساني التزامًا ملزمًا، بل عائقًا أمام «الحسم».

ومن زاوية تحليلية أخرى، فإن الإصرار على الحل العسكري يُنتج دائرة مغلقة من العنف. فكل تصعيد يولد مقاومة، وكل قصف في منطقة مأهولة يخلق مظالم جديدة، تُستخدم لاحقًا لتبرير مزيد من العنف. هكذا تتحول الحرب من وسيلة إلى غاية، ومن أداة مؤقتة إلى حالة دائمة. في هذه الدائرة، يختفي الخط الفاصل بين الأمن والفوضى، وتصبح الدولة نفسها طرفًا في تهديد مواطنيها بدل حمايتهم.

أما الحديث المتداول عن استخدام مواد كيميائية، حتى وإن كان في طور الاتهام والتحقيق، فيكشف مستوى خطيرًا من الانحدار في قواعد الاشتباك. من منظور تحليلي، مجرد وصول الصراع إلى هذا النوع من الاتهامات يعني أن الحرب خرجت عن نطاق السيطرة الأخلاقية والسياسية. فالجيوش النظامية، حين تفقد بوصلتها السياسية، تميل إلى تصعيد نوعي في أدوات العنف، ما يفتح الباب أمام جرائم لا تسقط بالتقادم، ويضع البلاد تحت مجهر المحاسبة الدولية. وهنا يصبح الإصرار على الحل العسكري عبئًا استراتيجيًا، لا ورقة قوة.

كما أن هذا الخطاب يُقوّض أي فرصة لبناء جيش قومي مهني في المستقبل. فالجيش الذي يُستنزف في حرب داخلية طويلة، ويُتَّهم بانتهاكات ضد المدنيين، يفقد شرعيته الاجتماعية قبل أن يفقد قدرته القتالية. ومع الوقت، يتحول من مؤسسة وطنية جامعة إلى طرف نزاع، وهو ما يحمل مخاطر تفكك الدولة نفسها. التحليل الواقعي يُظهر أن الأمن المستدام لا يُبنى بالقوة وحدها، بل بشرعية سياسية، وهذه الشرعية لا يمكن أن تولد من فوهة بندقية.

من ناحية إقليمية، فإن استمرار الحرب وفق هذا المنطق يُنذر بتداعيات تتجاوز حدود السودان. النزوح الجماعي، وانتشار السلاح، وتهديد الأمن الغذائي، كلها عوامل تُقلق المجتمع الدولي، وتفسر تزايد الضغوط الدبلوماسية. تصريحات تومي بيقوت، في هذا الإطار، ليست استثناءً، بل جزء من اتجاه دولي يرى أن عسكرة الحل لم تعد خيارًا مقبولًا، وأن تجاهل هذا الواقع سيقود إلى عزلة سياسية واقتصادية أعمق.

في الخلاصة التحليلية، فإن الإشكال ليس فقط في تصريح يقول إن الحل عسكري، بل في المنظومة الفكرية التي أنتجته وتدافع عنه. هذه المنظومة أثبتت فشلها تاريخيًا، وأظهرت عجزها عن حماية المدنيين أو الحفاظ على وحدة الدولة. كل المؤشرات، من الميدان إلى المواقف الدولية، تقول إن الاستمرار في هذا المسار يعني مزيدًا من القتل، ومزيدًا من الانتهاكات، ومزيدًا من التفكك. البديل ليس رفاهية سياسية، بل ضرورة وجودية: حل سياسي شامل، يضع المدنيين في قلب المعادلة، ويُنهي وهم الحسم بالقوة قبل أن ينهي ما تبقى من السودان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى