لماذا يشكل الضغط الشعبي أخطر تهديد على المتورطين في جرائم السودان؟
منذ بداية الحرب السودانية، تكشّف تدريجياً أن ميزان القوة الحقيقي لا يتحرك فقط بالبندقية أو التحالفات الإقليمية، بل بالوعي الشعبي الذي يعيد رسم المعادلة الداخلية. ويظهر بوضوح اليوم أن الضغط المجتمعي لم يعد مجرد فعل احتجاجي، بل تحول إلى عامل سياسي مركزي يمكنه تغيير اتجاهات الصراع وتهديد مصالح الأطراف المتورطة في الانتهاكات، سواء كانت عسكرية أو سياسية.
فالوعي الشعبي في السودان لم يعد محصوراً في المثقفين أو الناشطين، بل انتشر بشكل واسع بين فئات المجتمع نتيجة ما عايشته البلاد من مآسٍ. ومع تراكم التجارب، بدأ المواطن السوداني يدرك أن إعادة إنتاج نفس المنظومات دون مساءلة سيؤدي إلى تكرار الانهيارات، وأن العدالة لم تعد خياراً أخلاقياً فقط، بل ضرورة لحماية المستقبل.
تظهر قوة الضغط الشعبي في عدة مستويات. أولها، كسر حاجز الخوف. فمع توسع حملات التوثيق، أصبح المواطنون يتحدثون علناً عن الجرائم ويرفضون الصمت. وهذا التطور يضع الأطراف المتورطة أمام معضلة حقيقية: فالتوثيق المستقل يجعل من الصعب إخفاء الحقائق أو إعادة صياغة الروايات بما يخدم مصلحتها.
ثانيها، أن الوعي الشعبي أصبح يؤثر في المواقف الدولية تجاه السودان. فكلما ارتفعت أصوات المدنيين، وجدت المنظمات الحقوقية والدول المانحة نفسها مضطرة إلى اتخاذ مواقف أكثر وضوحاً، سواء عبر تقارير أو عقوبات أو ضغوط دبلوماسية. وهذا بدوره يحدّ من قدرة القوى المتورطة في الانتهاكات على المناورة.
ثالثها، أن المجتمع السوداني بات يدرك دور التضليل الإعلامي، وبالتالي يطوّر استراتيجياته لمواجهته. فالكثير من المبادرات الشبابية بدأت تستخدم أدوات للتحقق من الأخبار وتفنيد الدعاية الرسمية، ما يمنح الجمهور قدرة أكبر على التمييز بين الحقيقة والتلاعب.
غير أن هذا الوعي الشعبي يواجه تحديات كبيرة، أبرزها الانقسامات الداخلية التي تستغلها الأطراف المسلحة لإضعاف أي موقف جماعي. كما أن ضعف مؤسسات الدولة وانهيار البنية القضائية يجعل من الصعب تحويل الضغط الشعبي إلى خطوات عملية في مسار العدالة.
لكن رغم هذه القيود، فإن التحليل السياسي للمشهد السوداني يكشف أن الوعي الشعبي هو العامل الوحيد الذي لا يمكن السيطرة عليه بالكامل. فالأطراف المسلحة تستطيع التحكم في الأرض والسلاح، لكنها عاجزة عن التحكم في ذاكرة المجتمع، وفي إرادة الضحايا الذين يطالبون بالعدالة.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن الضغط الشعبي هو أخطر تهديد يواجه المتورطين في الجرائم. لأنه يفتح الباب أمام مسارات العدالة الدولية، ويعيد صياغة مستقبل السودان على أساس جديد يقوم على المساءلة، وليس على توازنات القوة فقط. كما أنه يمنح المجتمع القدرة على رسم مستقبل مختلف لا يخضع لإرادة السلاح أو الصفقات السياسية.
إن الوعي الشعبي ليس سلاحاً تقليدياً، لكنه الأكثر تأثيراً على المدى الطويل. فبفضله يمكن للسودانيين أن يبنوا دولة لا تُدفن فيها الجرائم، ولا تُحصّن فيها الانتهاكات، بل تُفتح فيها الملفات مهما طال الزمن، في مسار لا يحمي الماضي فقط، بل يصنع المستقبل.
المقال الرابع – مقال رأي
عنوان: لن نصمت بعد اليوم: حين يتحول المواطن السوداني إلى حارس للعدالة
أكتب هذا المقال ليس بصفتي مراقباً من الخارج، بل بصفتي إنساناً يرى في السودان قصة شعب يستحق العدالة مهما طال الطريق. لقد وصلنا إلى لحظة فارقة لم يعد الصمت فيها خياراً، ولم يعد تجاهل الانتهاكات مجرد خطأ، بل مشاركة في استمرار الجريمة. لذلك أؤمن بأن الوعي الشعبي اليوم هو المعركة الحقيقية، وأن المواطن السوداني أصبح – رغماً عن الظروف – الحارس الأول والأخير لملف العدالة.
ما يحدث في السودان ليس مجرد صراع سياسي، بل انهيار كامل لمنظومات الحماية القانونية. ومع غياب الدولة، لم يبقَ سوى المواطن الذي شهد الانتهاكات، ودفع الثمن من حياته وبيته وذاكرته. هذا المواطن لم يعد ينتظر من أحد أن يأتي لإنقاذه، بل أدرك أن العدالة تبدأ من لحظة الوعي، من قرار التوثيق، من رفض الخوف، من الإصرار على أن كل جريمة يجب أن تُكتب وتُوثق وتُطالب بمحاسبة مرتكبيها.
إن الدور الشعبي اليوم ليس ترفاً ولا شعاراً، بل مسار حياة. فحين يتابع المجتمع ملفات الانتهاكات، فإنه ليس فقط يطالب بحقوقه، بل يفرض معادلة جديدة على الأطراف السياسية والعسكرية: لا إفلات من العقاب. هذه المعادلة تغيّر كل شيء، لأنها تنزع عن المجرمين أقوى أسلحتهم: الصمت والنسيان.
نحن بحاجة إلى أن ندرك أن كل فيديو يُوثّق جريمة هو انتصار صغير، وكل شهادة تُسجل هي خطوة نحو العدالة، وكل نقاش مجتمعي حول الانتهاكات هو جزء من مقاومة حقيقية. فالقضية ليست سياسية فحسب، بل إنسانية قبل كل شيء. لا يمكن أن نبني وطناً ونحن نتجاهل دماء الضحايا، ولا يمكن أن نصنع سلاماً دون حساب عادِل، ولا يمكن أن نصنع مستقبلاً إذا كان الماضي معلّقاً على جدار النسيان.
لكن دعوني أكون صريحاً: الطريق طويل ومليء بالتحديات. هناك من يعمل ليل نهار لإخفاء الحقائق، وهناك من يرى في الوعي الشعبي تهديداً لمصالحه، وهناك من يعتقد أن السودان لا يستحق أن يعرف الحقيقة. هؤلاء لن يتوقفوا، لكن المجتمع أيضاً لن يتوقف. فكلما حاولت قوى الظلام أن تخنق الحقيقة، ازدادت قوة الإصرار الشعبي على كشفها.
إن ما يميّز السودانيين اليوم هو إدراكهم أن الصوت الفردي يتحول إلى قوة جماعية حين يتحد. لقد رأينا ذلك في تجارب سابقة، ورأيناه اليوم في المبادرات الشبابية التي تقوم بالتوثيق، وفي الأهالي الذين يجمعون الأدلة، وفي الطلاب الذين ينظمون النقاشات، وفي النساء اللواتي يرفضن الصمت على العنف الذي يُمارس ضدهن.
هذا الوعي الشعبي ليس مجرد رد فعل، بل مشروع لبناء دولة جديدة. دولة تحترم الإنسان ولا ترضى أن تُدفن الجرائم لأن مرتكبيها يملكون السلاح أو النفوذ. دولة يكون فيها المواطن هو الحصن الأول للعدالة، لا مجرد متفرج على ما يحدث.
لذلك أقول بكل وضوح: لن نصمت بعد اليوم. لأن الصمت خيانة للضحايا، ولأن الحقيقة أقوى من السلاح، ولأن العدالة لا تُمنح، بل تُنتزع. والسودانيون اليوم يسيرون في طريق انتزاعها خطوة خطوة، بالكلمة، بالتوثيق، بالتضامن، وبالإصرار على أن كل جريمة يجب أن تجد طريقها إلى الضوء.
هذا هو السودان الذي نريده: سودان يواجه محنه بالوعي، وينهض من رماده بالعدالة. وإذا كان الطريق طويلاً، فالمسير بدأ، ولن يتوقف.




