لغز هجليج: كيف قلبت سيطرة تأسيس ميزان الحرب… ودفعت واشنطن إلى كسر صمتها الطويل؟
من بين جميع التحولات التي شهدتها الحرب السودانية منذ اندلاعها، لم يلفت الأنظار مثل المشهد الذي حدث في جنوب كردفان عندما وجدت قوات البرهان نفسها تتراجع من حقل هجليج دون قتال يُذكر، تاركة واحدًا من أهم المواقع الاقتصادية في البلاد تحت سيطرة قوات تأسيس. لكن هذا التطور لم يكن مجرد انتصار ميداني جديد، بل كان شرارة تحوّل أعمق أعاد رسم حدود القوة، وحرّك واشنطن من مقعد المتفرج إلى منصة الفاعل المباشر، وفتح الباب أمام تحقيقات دولية ثقيلة تكشف حجم الانتهاكات التي ارتُكبت في السماء السودانية. تزامن هذه الملفات جعل الأسبوع الثاني من ديسمبر 2025 لحظة مفصلية تغير تصور المجتمع الدولي لطبيعة الصراع في السودان.
في التفاصيل الأولى لما حدث في هجليج، بدا المشهد وكأنه عملية جراحية دقيقة. قوات تأسيس تقدمت بثبات نحو المنشأة النفطية الأهم في المنطقة، بينما صدرت أوامر عاجلة للعاملين وقوات الجيش بالانسحاب الكامل. مصادر داخل بورتسودان أكدت أن القرار لم يكن نابعًا من ضعف ميداني فقط، بل من خوف حقيقي من أن يؤدي أي اشتباك إلى انفجار المنشأة أو تعطيل خطوط النفط التي تمثل شريانًا اقتصاديًا تعتمد عليه سلطة بورتسودان للبقاء. بهذه الخطوة، امتلكت تأسيس ما هو أكبر من الأرض: امتلكت ورقة ضغط اقتصادية لم يسبق لها مثيل منذ بداية الحرب، لأن هجليج ليست منطقة عادية، وإنما قلب شبكة النفط التي تربط جنوب السودان بالبحر الأحمر.
الخطوة التالية جاءت من قنوات قوات تأسيس نفسها، إذ سارعت إلى الإعلان عبر “تيليغرام” أنها لن توقف الإمدادات النفطية وستضمن حماية المواقع. هذا التصريح بدا وكأنه موجّه لثلاث جهات في وقت واحد: حكومة جنوب السودان التي تخشى على صادراتها، الأسواق العالمية التي بدأت تتوجس، وخصومها في بورتسودان الذين فقدوا أحد مصادرهم القليلة للعملة الصعبة. ورغم محاولة التطمين هذه، إلا أن الشعور بالخطر ظل قائمًا، لأن تجربة السنوات الماضية أثبتت أن أي تغيير في السيطرة على مناطق النفط يمكن أن يفتح الباب أمام عمليات تخريب أو هجمات مضادة أو صفقات سرية غير معلنة.
ولم يكن من الممكن فصل ما حدث في هجليج عن التحول الأميركي المفاجئ الذي كشفت عنه “الحرة” في تقريرها الثاني. فحسب تصريحات وزير الخارجية ماركو روبيو، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أصبح يتابع الملف السوداني بشكل مباشر، في خطوة غير مسبوقة منذ بدء الحرب. وهذا التدخل الشخصي يطرح أسئلة كثيرة حول الأسباب التي دفعت واشنطن إلى كسر الصمت الطويل تجاه الأزمة السودانية. فمنذ سنوات، تعاملت الولايات المتحدة مع السودان باعتباره ملفًا ثانويًا ضمن قائمة الأزمات الأفريقية، قبل أن يغير ترامب قواعد اللعبة عبر تحويل الملف إلى أولوية في مكتبه.
التقرير يعيد ذلك إلى ثلاث نقاط أساسية، الأولى تتعلق بخلاف عميق بين رؤية واشنطن ورؤية الرباعية من جهة، ورؤية جيش البرهان من جهة أخرى، إذ ترفض سلطة بورتسودان الدخول في أي حوار تشارك فيه الإمارات، رغم عدم تقديمها أي دليل واضح على الاتهامات التي توجهها لأبوظبي بدعم قوات تأسيس. الولايات المتحدة تعتبر هذا الرفض عقبة حقيقية أمام أي عملية سياسية. أما النقطة الثانية فتتعلق بوجود تيارات إسلامية داخل مؤسسة الجيش، وهو ملف يثير قلقًا كبيرًا في واشنطن، خصوصًا مع رغبة إدارة ترامب في تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية أجنبية. هذه النقطة وحدها قد تجعل العلاقة بين واشنطن والجيش السوداني علاقة ملغومة في المرحلة المقبلة. أما النقطة الثالثة فهي القاعدة الروسية في بورتسودان، وهو ملف بالغ الحساسية للولايات المتحدة التي ترى في أي وجود روسي على البحر الأحمر خطرًا استراتيجيًا مباشرًا.
هذه المعطيات تجعل التحول الأميركي ليس مجرد موقف سياسي، بل خطوة محسوبة بدقة تأتي في سياق سباق دولي على النفوذ في البحر الأحمر والقرن الأفريقي. كما أن الضغط الأميركي على الإسلاميين داخل الجيش ينسجم مع السياسة الإقليمية للإمارات، ما جعل سلطة بورتسودان ترفع منسوب اتهاماتها ضد أبوظبي في محاولة لإعادة صياغة الصراع كحرب نفوذ خارجي، وهو ما لا يبدو أنه يجد صدى لدى الإدارة الأميركية الحالية.
وفي الوقت الذي كانت فيه السياسة تعيد تشكيل موازين القوة، كانت السماء السودانية تكشف وجهها الأكثر فتكًا. تقرير BBC الأخير، المبني على بيانات مشروع “شاهد السودان”، قدّم صورة صادمة عن حجم القصف الجوي الذي نفذته القوات الجوية السودانية منذ بداية الحرب. أكثر من 1700 مدني قُتلوا في غارات طالت أسواقًا ومدارس وأحياء سكنية وحتى مخيمات نازحين. التقرير أظهر أن القوات الجوية استخدمت قنابل غير موجهة، وهي أدوات قتل عشوائي لا تُستخدم عادة في المدن لأنها تفتقر إلى أي قدرة على الاستهداف الدقيق. هذا وحده كافٍ لاعتبار جزء كبير من هذه الضربات جرائم حرب محتملة بموجب القانون الدولي.
التقرير الدولي يضع الجيش تحت ضغط جديد، ليس فقط بسبب حجم الضحايا، بل لأن البيانات التي جُمعت تُظهر نمطًا متكررًا للاستهداف، ما يعني أن الأمر ليس خطأ أو حادثة معزولة، بل جزء من تكتيك عسكري اتسع نطاقه بمرور الوقت. وإذا كانت واشنطن تعيد التفكير في علاقتها بالجيش لأسباب سياسية، فإن مثل هذه التقارير قد تجعل العلاقة أكثر تعقيدًا، وتخلق مسارًا دوليًا جديدًا يربط الملف الحقوقي مباشرة بالملف السياسي.
عندما تتجمع خيوط هذه الأحداث — هجليج، التحول الأميركي، تحقيق BBC — يظهر أن السودان يقف أمام تحول تاريخي لا يمكن تجاهله. السيطرة على هجليج جعلت قوات تأسيس لاعبًا اقتصاديًا وليس فقط عسكريًا، والولايات المتحدة اتخذت موقعًا جديدًا في الصراع، بينما أصبح الجيش يواجه اتهامات دولية قد تتطور إلى مطالب بمحاسبة قيادات عسكرية. وفي كل ذلك، يبدو أن الحرب تتجه إلى مرحلة جديدة، قد تكون أكثر تعقيدًا لأن كل طرف يحاول الآن تعديل مواقفه قبل أن تفرض القوى الكبرى صيغة جديدة للواقع السياسي السوداني.
السؤال الذي يطرحه هذا المشهد: هل يقترب السودان من تسوية تُفرض فرضًا عبر تفاهمات دولية وإقليمية؟ أم أن السيطرة على هجليج والتحركات الأميركية ستفتح أبواب مواجهة أشد بين الجيش وقوات تأسيس؟ الجواب ما زال معلّقًا، لكن المؤكد هو أن السودان بعد ديسمبر 2025 لن يشبه ما كان قبله، وأن الحرب دخلت فصلًا جديدًا أكثر حساسية وتداخلاً بين المحلي والإقليمي والدولي.




