زوايا

في تفسير الحياد الدولي مع السودان

باستثناء مندوب السودان الذي انحاز لموقف البرهان لم يتطرق أحد لجوهر الأزمة ومكوناتها الحقيقية إلا في عبارات حمالة أوجه وكأن الجميع يعلم أنها مفتوحة على كل الاحتمالات وأن القادم مجهول.


بدت الكثير من مواقف القوى الإقليمية والدولية في الصراع العسكري الدائر في السودان محايدة أكثر من اللازم، وساوى بعضها إلى حد بعيد في التعامل بين قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وحافظت غالبية الدول على مواقفها في عدم الانحياز صراحة لأحدهما، وغضت الطرف عن مكونات الخطاب السياسي الذي يستند عليه كل جانب.

وكشفت كلمات الوفود خلال جلسة مجلس الأمن التي عقدت بشأن السودان، الثلاثاء، عن التمسك بذلك إلى حد بعيد، ومحاولة حث الطرفين على تثبيت وقف إطلاق النار مع مفردات تظهر التعاطف الإنساني للمأساة التي يتعرض لها الشعب السوداني.

لم يتطرق أحد إلى جوهر الأزمة ومكوناتها الحقيقية إلا في عبارات حمالة أوجه، باستثناء مندوب السودان الذي انحاز تلقائيا لموقف البرهان، وكأن الجميع يعلم أنها مفتوحة على كل الاحتمالات، وأن القادم مجهول ويفرض عدم اتخاذ مواقف صارمة.

أثار ما يمكن وصفه بالازدواجية الدولية تساؤلات كثيرة، وربما حيرة لدى البعض أو صعوبة في التفسير، لأن الناس لم يعتادوا المساواة في الأزمات الساخنة إلا في حالة فقدان البوصلة وعدم القدرة على تحديد الرؤية، أو امتلاك الطرفين ما يعززان به منطقهما لخوض الحرب، ورأينا ذلك في مواقف الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا ودول عديدة تجنبت إدانة أحدهما أو دعم الآخر صراحة.

أرخت الالتباسات التي تحيط بالحرب بظلالها على تقديرات الكثير من المواقف الخارجية في التعامل معها، فمن يدعمون الجنرال البرهان سرا شككوا في إمكانية انتصاره لما تتمتع به قوات حميدتي من قدرة قتالية عالية في عمليات الكر والفر التي اكتسبتها خلال حربها الطويلة في دارفور ضد الحركات المسلحة، ومن يدعمون الجنرال حميدتي انتابتهم ظنون في صموده وتعرضه لهزيمة ثقيلة أمام آلة عسكرية تملك أنواعا عدة من الأسلحة الثقيلة والطائرات والدبابات، ما تمخض عنه ما يعرف بالحياد الإيجابي في هذه الحرب.

استخدم البرهان خطاب الشرعية لكشف تجاوزات عدوه اللدود وخروجه عنها وعدم التزامه بالضوابط العسكرية المعمول بها، فقد كان جزءا من هذه المؤسسة ويحظى بغطاء قانوني منذ حكم الرئيس السابق عمر البشير، والذي أنشأ قوات الدعم السريع التي قاتلت لحساب سلطته في دارفور، كما أن الجيوش النظامية تعتبر كل خروج عنها تصرفا يستحق المحاسبة والعقاب.

هذا الخطاب صحيح في المجمل، غير أن تفاصيله السودانية معقدة، ومليئة بالالتباسات السياسية والعسكرية والقانونية، وهي أحد مفاتيح فشل عملية دمج قوات الدعم السريع في الجيش وفقا لما جاء في الاتفاق الإطاري، والمفتاح الثاني هو أن حميدتي لازمته فكرتا الزعامة والشرعية، فلا يريد أن يكون الرجل الثاني في التراتبية العسكرية وتحت رئاسة البرهان، ودائم البحث عن غطاء يمنحه وضعا قويا في مؤسسة الجيش النظامية، وعندما أخفق في الحصول على ما يريد داخل هذه المؤسسة بحث عن آخر سياسي ووجده في دعم تصورات القوى المدنية.

أخذ الرجل يشق طريقه نحو الأحزاب والقوى المدنية بعدما سئم من التفاهم مع البرهان، وأظهر انحيازا لها والتعاون معها ومساعدتها في انتزاع مطالبها السياسية، وبدأ يشدد على ضرورة تسليم السلطة إلى حكومة مدنية ودعم عملية التحول الديمقراطي في البلاد، ما جعل الكثير من القوى السياسية، خاصة المجلس المركزي في قوى الحرية والتغيير، تنجذب إليه وهي تعلم تاريخه العسكري جيدا.

أدى تبني قائد الدعم السريع لخطاب ظاهر مدني متطور إلى دعم بعض القوى الغربية له من وراء الستار، واعتبرته منقذا لها ووازنا في أجندتها العامة بعد اعترافه مؤخرا بأنه أخطأ في دعم البرهان في انقلابه العسكري وخطوته التي قام بها لحل الحكومة المدنية في أكتوبر 2021.

وضاعف من هجومه على الجيش، تارة باختراق فلول النظام السابق له، وأخرى بسبب نمو العناصر الإخوانية في صفوفه، وثالثة بأن البرهان كان يستعد لانقلاب جديد على القوى المدنية، وكلها عوامل ضمنت له علاقات جيدة بالسودان وخارجه.

وجاء هروب قيادات إسلامية من السجون السودانية ليعزز رؤية الدعم السريع، ويضفي عليها مصداقية سياسية، حيث كشفت مبكرا عن ربط بين البرهان وهؤلاء.

ومع أن الجيش تنصل من عملية فتح السجون لهؤلاء وأنكر مسؤوليته عن حماية السجون التي تدخل في اختصاص جهاز الشرطة، فإن البرهان يتحمل في كل الحالات المسؤولية السياسية والأمنية والأخلاقية لأن وزارة الداخلية هو الذي يعين وزيرها بحكم أنه رئيس مجلس السيادة أيضا.

حاول الجنرال البرهان دحض الاتهامات الموجهة إليه في هذا السياق ودافع عن مؤسسة الجيش كضامن كبير لأمن واستقرار السودان في وقت يواجه فيه عواصف من جهات مختلفة، وانجذبت لهذا الخطاب قوى إقليمية ودولية متباينة، رأت أن “تمرد” قوات الدعم السريع يفتح الباب لتطورات أكثر صعوبة، لأن الترتيبات الأمنية وعملية دمج الحركات المسلحة داخل هياكل الجيش لم تكتمل وتواجه مشاكل كبيرة.

تسبب انفتاح كل طرف على القوى الخارجية نفسها في زيادة المأزق، فكل من البرهان وحميدتي يملك علاقات جيدة مع الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وإسرائيل، وأدى هذا المحدد إلى كبح الكثير من الدول عن تبني مواقف واضحة، وتم اللجوء إلى لغة فضفاضة يستطيع كل طرف تفسير معانيها بالطريقة التي تريحه.

تمتد الازدواجية إلى مجلس الأمن وصعوبة أن تصدر عنه قرارات تستهدف حميدتي أو البرهان، لأن توازنات القوى داخله وحسابات كل منها في الأزمة ستحول دون صدور قرارات حاسمة وصارمة، وقد يتم اللجوء إلى الفيتو إذا لم يكن القرار محل اتفاق مع مصالح أي من القوى الخمس الكبرى، وحال صدور قرار من المتوقع أن يساوي بين الطرفين، ما يمثل مكسبا للدعم السريع وخسارة للجيش السوداني.

كشف الحياد الدولي الحالي في الأزمة عن عدم قدرة على تحديد الفواصل في السودان، من مع من، ومن ضد من، وهي صورة من صور الفانتازيا العالمية التي تؤكد أن هناك تحولات يمكن أن تشهدها المنطقة المليئة بصراعات عسكرية، يمكن أن تلعب فيها الحركات المسلحة والمرتزقة والميليشيات أدوارا مركبة بعد تدمير الكثير من الجيوش العربية النظامية، أو دخولها في أزمات هيكلية على الطريقة السودانية.

تأتي خطورة الحياد الدولي من هذه الزاوية، لأنها تفتح الطريق أمام تصرفات كثيرة، وتمنح مشروعية للعديد من القوى المحلية، والتي باتت تمتلك علاقات وثيقة مع قوى خارجية متعددة، وتحول بعضها إلى أدوات ربما تسخرها للدفاع عن مصالحها، وهي رسالة تكرر ما ظهر في ليبيا من تقاعس في التعامل مع تداعيات أزمتها.

نقلا عن صحيفة العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى