حين يصبح الوعي سلاحاً: لماذا يشكل الضغط الشعبي أخطر تهديد على المتورطين في جرائم السودان؟
أكتب هذا المقال ليس بصفتي مراقباً من الخارج، بل بصفتي إنساناً يرى في السودان قصة شعب يستحق العدالة مهما طال الطريق. لقد وصلنا إلى لحظة فارقة لم يعد الصمت فيها خياراً، ولم يعد تجاهل الانتهاكات مجرد خطأ، بل مشاركة في استمرار الجريمة. لذلك أؤمن بأن الوعي الشعبي اليوم هو المعركة الحقيقية، وأن المواطن السوداني أصبح – رغماً عن الظروف – الحارس الأول والأخير لملف العدالة.
ما يحدث في السودان ليس مجرد صراع سياسي، بل انهيار كامل لمنظومات الحماية القانونية. ومع غياب الدولة، لم يبقَ سوى المواطن الذي شهد الانتهاكات، ودفع الثمن من حياته وبيته وذاكرته. هذا المواطن لم يعد ينتظر من أحد أن يأتي لإنقاذه، بل أدرك أن العدالة تبدأ من لحظة الوعي، من قرار التوثيق، من رفض الخوف، من الإصرار على أن كل جريمة يجب أن تُكتب وتُوثق وتُطالب بمحاسبة مرتكبيها.
إن الدور الشعبي اليوم ليس ترفاً ولا شعاراً، بل مسار حياة. فحين يتابع المجتمع ملفات الانتهاكات، فإنه ليس فقط يطالب بحقوقه، بل يفرض معادلة جديدة على الأطراف السياسية والعسكرية: لا إفلات من العقاب. هذه المعادلة تغيّر كل شيء، لأنها تنزع عن المجرمين أقوى أسلحتهم: الصمت والنسيان.
نحن بحاجة إلى أن ندرك أن كل فيديو يُوثّق جريمة هو انتصار صغير، وكل شهادة تُسجل هي خطوة نحو العدالة، وكل نقاش مجتمعي حول الانتهاكات هو جزء من مقاومة حقيقية. فالقضية ليست سياسية فحسب، بل إنسانية قبل كل شيء. لا يمكن أن نبني وطناً ونحن نتجاهل دماء الضحايا، ولا يمكن أن نصنع سلاماً دون حساب عادِل، ولا يمكن أن نصنع مستقبلاً إذا كان الماضي معلّقاً على جدار النسيان.
لكن دعوني أكون صريحاً: الطريق طويل ومليء بالتحديات. هناك من يعمل ليل نهار لإخفاء الحقائق، وهناك من يرى في الوعي الشعبي تهديداً لمصالحه، وهناك من يعتقد أن السودان لا يستحق أن يعرف الحقيقة. هؤلاء لن يتوقفوا، لكن المجتمع أيضاً لن يتوقف. فكلما حاولت قوى الظلام أن تخنق الحقيقة، ازدادت قوة الإصرار الشعبي على كشفها.
إن ما يميّز السودانيين اليوم هو إدراكهم أن الصوت الفردي يتحول إلى قوة جماعية حين يتحد. لقد رأينا ذلك في تجارب سابقة، ورأيناه اليوم في المبادرات الشبابية التي تقوم بالتوثيق، وفي الأهالي الذين يجمعون الأدلة، وفي الطلاب الذين ينظمون النقاشات، وفي النساء اللواتي يرفضن الصمت على العنف الذي يُمارس ضدهن.
هذا الوعي الشعبي ليس مجرد رد فعل، بل مشروع لبناء دولة جديدة. دولة تحترم الإنسان ولا ترضى أن تُدفن الجرائم لأن مرتكبيها يملكون السلاح أو النفوذ. دولة يكون فيها المواطن هو الحصن الأول للعدالة، لا مجرد متفرج على ما يحدث.
لذلك أقول بكل وضوح: لن نصمت بعد اليوم. لأن الصمت خيانة للضحايا، ولأن الحقيقة أقوى من السلاح، ولأن العدالة لا تُمنح، بل تُنتزع. والسودانيون اليوم يسيرون في طريق انتزاعها خطوة خطوة، بالكلمة، بالتوثيق، بالتضامن، وبالإصرار على أن كل جريمة يجب أن تجد طريقها إلى الضوء.
هذا هو السودان الذي نريده: سودان يواجه محنه بالوعي، وينهض من رماده بالعدالة. وإذا كان الطريق طويلاً، فالمسير بدأ، ولن يتوقف.




