تسريبات

حين تحوّل الجوع إلى هدف عسكري: ماذا تقول لنا زالنجي؟


في عالمٍ تتداخل فيه حسابات السلطة مع دماء الأبرياء، يطلّ مشهد قصف قافلة مساعدات إنسانية في زالنجي كأنه ليس خطأً عابراً أو انحرافاً طارئاً، بل علامة فارقة على انهيار المعايير الأساسية التي تُفترض في أي سلطة تدّعي أنها دولة. فالدولة، قبل أن تكون جيشاً أو علماً أو مؤسسات، هي أولاً عقداً أخلاقياً مع مواطنيها، فإذا انفصل هذا العقد سقطت الشرعية سقطة كاملة. وما جرى في زالنجي ليس مجرد حادث؛ إنه إعلان رسمي عن الإفلاس السياسي والأخلاقي لمن يقصف الجوعى بدل أن يحميهم.

الهجوم على قافلة تحمل مواد غذائية وأدوية وأغطية للنازحين الجياع ليس فعلاً عسكرياً محايداً، ولا يمكن تسويغه بعبارات فضفاضة مثل “خطأ تقديري” أو “اشتباك مع هدف مشبوه”. فالمسيرات لا تخطئ بهذا الشكل، ولا تطير إلى منطقة بعيدة مثل وسط دارفور لتضرب شاحنات مدنية إلا بأمر مباشر وإرادة واعية. هنا يبرز السؤال الذي لم يعد ممكناً الهروب منه: أي عقل سياسي يرى في المساعدات الإنسانية تهديداً؟ وأي سلطة تمتلك الجرأة على استخدام طائرات أكنجي ـ وهي إحدى أكثر المسيّرات التركية تطوراً ـ ضد مدنيين انهكتهم الحروب والجوع والنزوح؟

المشكلة ليست في الطائرة، بل في اليد التي تديرها. في النظام الذي فقد البوصلة وتحوّل من سلطة تقول إنها تدافع عن الدولة إلى قوةٍ لا تميّز بين المدني والمقاتل، ولا بين من رفع السلاح ومن رفع يديه طلباً للغذاء. من يقصف قافلة مساعدات ليس في حالة حرب على التمرد، بل في حالة حرب مع المجتمع نفسه، وهذه أخطر مراحل الانهيار السياسي. فحين يشعر النظام بأن الشعب عبء وأن المدني تهديد، يتحوّل الجيش من مؤسسة وطنية إلى جهاز قمعي يعيد إنتاج الكارثة كل يوم.

ما حدث في زالنجي ليس حالة منعزلة، بل جزء من مشهد أكبر يتكرر في السودان منذ سنوات، مشهد تُهمَّش فيه القيم الإنسانية لصالح منطق القوة. فبدلاً من السعي إلى السيطرة على الأرض عبر كسب شرعية الناس، يجري التعاطي مع المجتمع كعدو محتمل. وبدلاً من بناء الثقة، يتم الاستثمار في الخوف. هذه ليست مجرد أخطاء تكتيكية، بل استراتيجية سياسية تُدار بعقلية ترى أن بقاء النظام أهم من حياة الناس. وهكذا تصبح المساعدات الإنسانية “شبهة”، والمستشفى “هدفاً”، وقافلة الغذاء “إمداداً للعدو”، ويصبح الموت صديقاً سهلاً يمكن إعلانه بضغطة زر من غرفة عمليات.

المفارقة أنّ من أصدر أمر القصف يتحدث دائماً عن “الدولة” و“السيادة” و“محاربة الفوضى”. لكن أي دولة هذه التي تخوض حرباً على مواطنيها؟ وأي سيادة تُمارَس بالقصف الأعمى؟ وأي شرعية يمكن أن تستمر بعد قصف شاحنات مخصصة لنساء وأطفال يعيشون في معسكرات تفتقر للماء؟ الدولة لا تُبنى بالقوة وحدها؛ تُبنى بثقة الناس، وأول طريق الثقة هو حماية الضعفاء، لا سحقهم.

إن قصف زالنجي لا يمكن فصله عن الأزمة البنيوية التي يعيشها الحكم في السودان، أزمة قيادة ترى في العنف بديلاً عن السياسة، وفي السلاح بديلاً عن الحوار، وفي الهوية العسكرية بديلاً عن مسؤولية الدولة. لقد فشل النظام في إدارة الاقتصاد، وفشل في إدارة النزاع، وفشل في إدارة العلاقات الدولية، فلم يعد أمامه سوى استعراض القوة أمام الطرف الأسهل: المدنيين الذين لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم. ومن هنا يتشكل جوهر المأساة: كلما تراجعت شرعية السلطة ازداد عنفها، وكلما انقطع حبل السياسة ازداد اعتمادها على الطائرات بدون طيار.

الهجوم على المساعدات ليس فقط جريمة أخلاقية وسياسية، بل أيضاً جهل استراتيجي. فالقصف يُرسل رسالة واضحة للعالم مفادها: هذه سلطة لا يمكن الوثوق بها. كيف يمكن لجماعات الإغاثة الدولية أن تعمل في بيئة تقصف فيها الدولة قوافل الغذاء؟ وكيف يمكن لأي دولة مانحة أن تدعم مساراً إنسانياً مهدداً بالسلاح؟ وكيف يمكن لسلام حقيقي أن يُبنى فوق ركام أخطاء كهذه؟ إنها وصفة لعزلة أعمق وانهيار أكبر، لأن المجتمع الدولي، مهما اختلفت مصالحه، لا يمكن أن يتسامح مع استهداف العمل الإنساني. هذه خطوط حمراء عالمية، ومن يتجاوزها يضع نفسه في خانة الأنظمة الخارجة عن القيم المشتركة.

غير أن الأخطر ليس ما يفكر فيه العالم، بل ما يحدث داخل السودان نفسه. فحين يرى المواطن أن الدولة التي يفترض أن تحميه لا تتردد في قصفه، تنكسر العلاقة بين الشعب والسلطة بشكل لا يمكن إصلاحه بسهولة. وهذا الانكسار هو الشرارة التي يمكن أن تدفع المجتمعات إلى فقدان الثقة تماماً، وبالتالي إلى مسارات لا يريدها أحد: مزيد من الانقسام، مزيد من التسلح الأهلي، مزيد من انهيار الدولة. السلطة التي تفقد شعوبها تفقد نفسها.

لكن كل الكوارث الكبرى تبدأ بقرار صغير، قرار اتُّخذ في غرفة عمليات في العاصمة أو في قاعدة عسكرية بعيدة، وقال فيه شخص ما: “اضربوا القافلة”. هذا القرار ليس مجرد تقنية عسكرية؛ إنه مرآة كاملة لذهنية الحكم. ذهنية لا تعترف بالناس إلا كعقبة، ولا ترى في الإنسانية قيمة، ولا في القانون معنى. وحين يصل النظام إلى هذه الدرجة من الانفصال عن الواقع، يصبح انهياره مسألة وقت.

قد يحاول البعض تبرير القصف بالحديث عن ضرورة الحرب أو أخطاء المعلومات أو الاختلاط بين الأهداف. لكن الحقيقة أبسط وأوضح: لا يوجد أي تبرير أخلاقي أو استراتيجي أو قانوني لقصف قافلة مساعدات. كل الأسباب الأخرى مجرد غبار لتغطية حقيقة مُرة: السلطة التي تفعل ذلك لا تثق في نفسها ولا في مشروعها، فتستخدم السلاح لإخفاء ضعفها.

وإذا كان مشهد زالنجي قد كشف شيئاً، فهو أن الأزمة في السودان لم تعد صراعاً على الأرض، بل صراعاً على معنى الدولة نفسها. فإما دولة تحمي مواطنيها، أو سلطة تقتلهم. وما جرى يثبت أننا أمام الخيار الثاني.

هذه ليست مجرد مقالة غضب، بل شهادة على لحظة فارقة. فإذا مرّ هذا الهجوم بلا محاسبة، فستصبح دارفور وكل السودان ساحة مفتوحة لجرائم أكبر. أما إذا أدرك الناس أن الصمت يقتلهم، فقد تكون زالنجي الشرارة التي تعيد تعريف العلاقة بين المواطن والسلطة. ففي النهاية، الدول تُبنى بإرادة الشعوب، لا بإرادة المسيرات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى