تفسيرات فتح المعابر بين السودان وإريتريا: ما هي الدلالات؟
خلال السنوات التي أعقبت انتفاضة ديسمبر 2018، وبعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، بدأت العلاقات بين السودان وإريتريا في التحسن، لكن إلى الآن لم يتم اختبار أهمية الدور الذي تؤديه المعابر الحدودية بين البلدين، وما يحيط بها من تنافس جيوسياسي، لا سيما عندما ينعكس التأثير من الجارة إثيوبيا في تأجيج أزمة الحدود أو المياه وما يرافقها من عدم الاستقرار.
سبقت زيارة رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني عبدالفتاح البرهان الأخيرة إلى إريتريا، إصداره قرار فتح المعابر الحدودية بين البلدين التي أغلقت في يناير 2018، عندما أعلن نظام البشير ذلك بموجب مرسوم جمهوري خاص بإعلان الطوارئ في ولاية كسلا شرق السودان، أعقبه إرسال تعزيزات عسكرية إلى الولاية، وبررت الحكومة ذلك بحجج عدة منها عملية جمع السلاح، ومكافحة تهريب المخدرات والسلع والاتجار بالبشر، وكان ذلك التطور انعكاساً لتحركات عسكرية بين السودان ومصر عند الحدود الإريترية.
هذه الزيارة إلى إريتريا هي الرابعة للبرهان منذ اشتعال الحرب في أبريل الماضي، فقد سافر قبلها إلى مصر في 29 أغسطس الماضي، في أول رحلة له إلى الخارج منذ اندلاع الحرب، وتبعها برحلة إلى دولة جنوب السودان في الرابع من سبتمبر الجاري، ثم إلى قطر في السابع من الشهر نفسه أيضاً.
ونظراً لظروف الحرب وطبيعة الاقتصاد الإريتري بطيء النمو، فإنه لا يتوقع أن يستفاد من فتح المعابر كما في أوقات السلم، إذ لن يكون هناك تبادل تجاري ملموس، لكن يمكن أن تستفيد منها القبائل المتداخلة بين البلدين، بتنشيط الحركة الاجتماعية التي انقطعت بفعل الإغلاق، كما يمكن أن تتطور العلاقات إلى التعامل المباشر بين البلدين بنقلها من علاقة التعامل مع الأقاليم بدلاً من المركز، ففي عهد البشير رفضت أسمرا توقيع اتفاقية تجارة حدود بين البلدين بين وزارة التجارة الخارجية السودانية ووزارة التجارة الإريترية، مفضلة التعامل مع الولايات الشرقية كسلا والبحر الأحمر.
ويفضل الرئيس الإريتري أسياس أفورقي أن تكون الاتفاقيات بين الاتحادات السودانية مع إقليم القاش بركة، وهو الذي تحيط به شبهة نشاط التهريب لمواد مثل الذرة والصمغ العربي وغيرها.
حاضنة المعارضة
بجانب الحدود الجغرافية، هناك تداخل سكاني بين البلدين، إذ إن أغلب مكونات شرق السودان الإثنية لديها امتداد داخل إريتريا، ومنها إقليم القاش بركة، لذلك كانت هذه المنطقة مسرحاً لتحركات وتسليح المناضلين الإريتريين الساعين لنيل استقلالهم من إثيوبيا في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وكانت العاصمة الإريترية أسمرا الحاضنة الأساسية لـ”التجمع الوطني الديمقراطي”، الذي أُنشئ في أعقاب الانقلاب العسكري بقيادة عمر البشير في يونيو 1989 وملاذ الفارين من التنكيل من المعارضين للنظام في سنوات الانقلاب الأولى، إذ عقد التجمع مؤتمره الأول في أسمرا في يونيو 1995 وخرج بالبيان الختامي وميثاق التحالف الذي صدق عليه في أكتوبر 1996.
وشمل البيان القرارات المتعلقة بحق تقرير المصير ونظام الإدارة المتطورة وهياكل التجمع الوطني الديمقراطي المعارض في الخارج، كما شملت الوثائق البرنامج الاقتصادي والسياسة الخارجية وخططاً للقضاء على حكومة الجبهة الإسلامية القومية، وكذلك القواعد الخاصة بالأحزاب السياسية، وميثاق النشاط النقابي، إلى جانب قانون الصحافة والطباعة والنشر والقضايا الإنسانية.
وكان التحالف يضم قاعدة واسعة من قوى وأحزاب سياسية معارضة لنظام “الإنقاذ”، أبرزها حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي، وكذلك الحزب الشيوعي وأحزاب من إقليم جنوب السودان، ومنطقة جبال النوبة وشرق السودان، إضافة إلى “قوات التحالف السودانية” و”الحركة الشعبية لتحرير السودان” والجيش الشعبي التابع لها.
وصادق المؤتمر في مقر التحالف في أسمرا على فصل الدين عن السياسة، وحق تقرير المصير لسكان جنوب السودان، وإسقاط نظام البشير، ونُظمت حملات عسكرية عام 1997 لإسقاطه من إقليم النيل الأزرق بدعم من رئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي، ومن إقليم كسلا بدعم من الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، ومن الجنوب بدعم من الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني.
وتخللت الفترة الطويلة المشحونة بالتوتر بين البلدين استضافة أسمرا محادثات جمعت بين البشير وزعيم “التجمع الوطني الديمقراطي” المعارض محمد عثمان الميرغني، كما استضافت إريتريا عام 2006 مفاوضات بين نظام البشير و”جبهة الشرق” وانتهت بالتوقيع على اتفاق سلام شرق السودان.
أزمة مستمرة
كسرت القطيعة بين البلدين بالزيارة الأولى للفريق البرهان لأسمرا أثناء توليه منصبه رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي، وكانت في يونيو 2019، في إطار محاولاته التواصل إقليمياً للتخفيف من الضغوط الدولية المحيطة بظروف تواصل الاحتجاجات ثم الاعتصام في القيادة العامة للقوات المسلحة، إلى أن تم فض الاعتصام ووقوع عدد كبير من الضحايا والجرحى. وفي سبتمبر من العام نفسه، وصل أفورقي إلى الخرطوم في أول زيارة له منذ 2014، وناقشا أمن منطقة البحر الأحمر ومنطقة القرن الأفريقي، إضافة إلى تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين.
وعندما زار الرئيس الإريتري الخرطوم مرة أخرى في مايو 2021 لمدة ليومين، كانت تسيطر على الأجواء التوترات بشأن النزاع الحدودي بين السودان وإثيوبيا، والأزمة المستمرة منذ عقد من الزمن بشأن سد النهضة الذي شيدته إثيوبيا على النيل الأزرق. وكان السودان قبلها ألمح إلى أن هناك طرفاً ثالثاً منحازاً إلى أديس أبابا في نزاعها الحدودي مع الخرطوم، في إشارة واضحة إلى إريتريا التي نشرت قواتها في إقليم تيغراي الإثيوبي للقتال إلى جانب القوات الفيدرالية الإثيوبية. وما كان من أسمرا إلا أن أرسلت وزير خارجيتها عثمان صالح الذي أكد للخرطوم أن بلاده ليست جزءاً من النزاع.
ومن جهة أخرى كان أفورقي يواجه ضغوطاً متزايدة من المجتمع الدولي، خصوصاً الولايات المتحدة، لسحب قواته من تيغراي التي اتهمت بارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان أثناء النزاع، وعبر الحدود أيضاً تتداخل الظروف السياسية مع الإنسانية، حيث فر نحو 126 ألف لاجئ إريتري من الاضطهاد السياسي، حسب ما نشرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وفي تخوم الحدود أيضاً حصلت جماعات قبلية سودانية في شرق السودان في وقت سابق على دعم أفورقي لقيام دولة مستقلة هي “دولة البجا”.
وحين أُعلن أن زيارة محمد حمدان دقلو “حميدتي” إلى أسمرا في مارس الماضي أتت بوصفه نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، للنقاش حول إيجاد حل لقضية شرق السودان نظراً للتداخل الإثني بين السودان وإريتريا، فسرت من ناحية أخرى بأنها مرتبطة بتحالفات إقليمية ودولية في إطار التنافس الأميركي- الروسي، وأنها أتت في إطار تحركات ونسج تحالفات قوات “الدعم السريع” مع دول الإقليم والقوى الدولية، لا سيما أن تلك الفترة شهدت نشاطاً كثيفاً لتحركاته بغرض نسج علاقات إقليمية ودولية بمعزل عن الحكومة، وأيضاً في ظل التقارب الكبير بين إريتريا وروسيا التي تعتزم بناء قاعدة عسكرية في مدينة مصوع الإريترية.
واقع جديد
أمر البرهان بفتح المعابر الحدودية مع إريتريا أثناء تفقده في الثالث من سبتمبر الجاري فرقة مشاة وحامية عسكرية في منطقة سنكات بولاية البحر الأحمر شرق البلاد، ومنذ عام 2018 أغلقت حكومة الرئيس السابق البشير الحدود المشتركة بين البلدين، وأرسلت تعزيزات عسكرية كبيرة إلى المناطق الحدودية، كما اتهمت الخرطوم أسمرا بحشد قوات كبيرة بالقرب من الحدود وإيواء المعارضة، وتشجيع تهريب البضائع من السودان.
أرست الحرب السودانية واقعاً جديداً من المواقف الإقليمية حول السودان. ومنها رفض أفورقي الانخراط في أي مبادرات خارجية لحل الأزمة. ووصفها بـ “البازارات السياسية”. وهو هنا يعني بعض المبادرات الأفريقية غير المنسجمة مع التي طرحتها دول أخرى في الإقليم.
وفعل أفورقي موقفه بالمشاركة في “قمة دول جوار السودان” التي استضافتها القاهرة في 13 يوليو (تموز) الماضي، لكنه ركز على عدم التدخل في الشأن السوداني واحترام سيادة البلاد، وأن “الكلمة الأخيرة ستكون للسودانيين في حل النزاع الراهن في البلاد”.
إطار إقليمي
تعد الحدود بين السودان وإريتريا كما عند غيرهما جزءاً من إطار أمني إقليمي واسع، ولذلك أسهمت عوامل عدة في عدم حصره في الإطار الداخلي وحده، إذ أسهمت التداعيات الإقليمية للحرب في السودان في تسريع التقارب بين السودان وإريتريا. وربما تؤدي إلى إضعاف نفوذ بعض دول الهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد” التي تحاول فرض إملاءاتها على الجانب السوداني.
هنا يتفق موقف البرهان من الاتحاد الأفريقي و”إيغاد” مع موقف أفورقي. تبعاً للمشاحنات الأخيرة على إثر تعليق عضوية السودان في المفوضية الأفريقية بعد الإجراءات التي فرضها البرهان في أكتوبر 2021. ثم تفاقمت بموقف المنظمتين من الحرب السودانية. أما أفورقي فقد ظل ينتقد المنظمتين وانسحب من “إيغاد” قبل 16 عاماً بعد اتهامه رئيس الوزراء الإثيوبي آنذاك ميليس زيناوي باستخدام الهيئة لتخريب أسمرا، وأخيراً عادت إريتريا لتشغل مقعدها في القمة الـ14 التي استضافتها جيبوتي في يونيو الماضي.
يعد الرئيس أفورقي صاحب إرث سياسي قوي فهو يحكم منذ 1993 كأول رئيس لدولة إريتريا بعد انفصالها عن إثيوبيا، إذ مورست في عهده انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان. إلا أن هالة من الإعجاب لدى البعض تحيط بنهجه السياسي في مواجهة الغرب وإعلان الاستغناء عن المنظمات الدولية. وحتى لا يفقد هذه الخاصية التي يمكن أن تبددها العقوبات الدولية. يحاول أفورقي إعادة إنتاج نظامه بالتخفيف من المواجهة الدولية وضمان تعاون إقليمي فاعل. وأعلنت أسمرا عن استعدادها للعمل على تحقيق السلم والاستقرار والتكامل الإقليمي. وهذا الدور يمكن أن يخرجها من عزلتها الإقليمية.
لإريتريا تأثير مباشر في أوضاع السودان خصوصاً منطقة شرق السودان التي تشهد استقطاباً حاداً يمكن أن يؤثر في الوضع بالإقليم، ويؤمن أفورقي بمشروع الكونفدرالية الذي طرحته القيادة السودانية. وقد صرح من قبل أنه “لا يراها إلا تمثلاً للواقع القائم بين الشعبين عبر القرون وليس حلماً”.
على رغم عدم إظهاره الاهتمام بنشاط المعارضين لنظامه في الخارج. فإن فتح المعابر الحدودية وتسهيل التواصل مع السودان. سيمكن أفورقي من تطويق عدد من تنظيمات المعارضة التي تعتزم تأسيس كيان سياسي وعسكري عريض من أجل إسقاطه انطلاقاً من الأراضي السودانية.