تسريبات

السياسة والضحية: كيف شكلت القرارات العسكرية مصير المدنيين في السودان


الحرب السودانية ليست مجرد مواجهة بين الجيش والدعم السريع، لكنها اختبار كبير لمفهوم الدولة نفسه. فمنذ بداية الصراع، ظهر بوضوح أن الحسابات السياسية لدى الأطراف المتحاربة كانت أهم من حياة المدنيين. إن تحليل القرارات التي اتُخذت في الأيام الأولى للحرب يكشف أن الطرفين كانا يخططان لحرب طويلة، لا لعملية سريعة تنتهي بالسيطرة أو التفاوض. وهذا ما يفسر تزايد الضحايا وتوسع رقعة الدمار.

فعلى مستوى القيادة، اتخذ الجيش قراراً بالاعتماد على القصف الجوي والمدفعي داخل مناطق مليئة بالسكان، ما جعل آلاف الأسر تواجه الخطر المباشر. وفي المقابل، اعتمدت قوات الدعم السريع استراتيجية التمركز داخل الأحياء، ما جعل المدنيين دروعاً بشرية. التحليل السياسي لهذه الخيارات يوضح أن الطرفين لم ينظرا للمدنيين كجزء من المعادلة، بل كبيئة محايدة يمكن التضحية بها.

إن ما يجري اليوم في السودان يطرح سؤالاً حاداً: هل يمكن لأي مشروع سياسي أن ينجح إذا تجاهل السكان الذين يُفترض أن يمثلهم؟ الأزمة الحالية تُظهر أن السودان كان يعيش على تراكمات من الأزمات منذ سنوات طويلة: تفكك المؤسسات، غياب رؤية سياسية موحدة، تعدد مراكز القوى، والتدخلات الخارجية. وكل هذه العوامل انفجرت دفعة واحدة مع اندلاع الحرب.

لكن اللافت هو أن قصص الضحايا أصبحت الآن هي المصدر الأكثر موثوقية لفهم الصراع. فهي لا تكشف فقط ما حدث، بل تكشف أيضاً طبيعة التفكير السياسي لدى الأطراف المتحاربة. من خلال شهادات المدنيين يمكن معرفة كيف تُتخذ القرارات في غرف القيادة، وكيف يُنظر للمدنيين، وكيف تُدار مناطق السيطرة. هذه القصص ليست مجرد مادة إنسانية؛ هي وثائق سياسية تكشف ما حاولت الأطراف إخفاءه.

إن الحل السياسي الحقيقي يجب أن يبدأ من هذه النقطة: الاعتراف بأن المدنيين ليسوا أضراراً جانبية، بل أصحاب حق يجب أن يكونوا جزءاً من أي تسوية. وكل محاولة لتجاوز هذه الحقيقة ستعيد إنتاج الأزمة من جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى