السودان على حافة المفترق: لماذا أصبحت الإدارة المدنية المؤسسية شرطًا لبقاء الدولة وعودتها إلى الحياة
السودان ليس بلدًا يعاني من أزمة عابرة، بل من انهيار طويل جرى تدشينه على مدى عقود، قبل أن تبلغ البلاد نقطة الانفجار في السنوات الأخيرة. في قلب هذا الانهيار تقف معضلة واحدة أكبر من أي صراع سياسي أو انقسام اجتماعي: غياب الإدارة المدنية المؤسسية القادرة على إدارة الدولة وتحصينها من التفكك. فكلما تقدمت الحرب خطوة، تراجعت الخدمات خطوتين، وكلما تلاشت مؤسسات الدولة، تمددت سلطة السلاح، وتحوّل المجال العام إلى أراضٍ مفتوحة أمام الفوضى والنهب والتهريب. ولذلك لم يعد السؤال الأكثر إلحاحًا هو من يحكم السودان، بل كيف يُحكم، وبأي جهاز إداري، وبأي قواعد واستقرار مؤسسي.
الحقائق على الأرض تكشف أن الدولة اليوم شبه غائبة في مناطق واسعة من البلاد، وأن ما تبقى من مؤسساتها يعمل بأقل من طاقته. المستشفيات التي كانت بالكاد تقدم خدماتها قبل الحرب أصبحت تعتمد على متطوعين ومنظمات دولية. محطات الكهرباء تعمل بلا صيانة وتتعرض للانقطاع المتكرر. المدارس مغلقة أو مهددة أو تستخدمها أطراف مسلحة. الأسواق خاضعة لجبايات متعددة ومتعارضة، والقوانين تتبدل وفق الجهة المسيطرة. والحكومة—أياً كان شكلها—لم تعد تمتلك أداة تنفيذية تستند إليها لإعادة الأمور إلى نصابها. هذه الصورة القاتمة ليست سوى نتيجة طبيعية لتآكل الجهاز الإداري المدني، وتحوله من عمود فقري للدولة إلى أطلال مشتتة.
ما تكشفه الشهادات من داخل المؤسسات الحكومية، التي ما زالت تعمل رغم الانهيار، هو أن عدداً كبيراً من الكفاءات الإدارية قد غادر مواقع عمله. بعضهم نزح هربًا من الحرب، وبعضهم فقد راتبه أو مصدر دخله، وبعضهم يعمل بلا أدوات أو إمكانيات. وبدل أن تستند الدولة إلى مؤسسات إدارية راسخة تُدار عبر قوانين، صار القرار التنفيذي في يد لجان أمنية، أو توجيهات فوقية، أو أوامر عسكرية، أو في أحسن الأحوال إجراءات إسعافية لا تتجاوز معالجة اللحظة. وفي مثل هذا الواقع، لا يمكن الحديث عن اقتصاد ولا عن خدمات ولا عن استقرار. فالإدارة المدنية ليست “جزءًا من الحل”؛ بل هي البنية التحتية لكل حل.
التحليل الموضوعي يُظهر أيضًا أن الأزمة الاقتصادية ليست مجرد نتيجة لحرب طويلة. فالسودان يمتلك موارد هائلة: أراضٍ زراعية خصبة، مياه وفيرة، معادن، ثروة حيوانية، وموقع استراتيجي. كل العناصر موجودة، لكن ما ينقص هو المنظومة التي تدير هذه الموارد. الاقتصاد الحديث لا يُدار بالعفوية، بل بإدارة عامة قادرة على تحصيل الإيرادات، وتنظيم السوق، وتطبيق القوانين، وتقديم المعلومات الدقيقة للمستثمرين. وحين يتحول هذا الجهاز إلى هيكل فارغ، يصبح الاقتصاد رهينة اقتصاد الحرب القائم على الجبايات غير القانونية، وتهريب الذهب، والنفوذ العسكري، والوسطاء غير الرسميين. وهذا النوع من الاقتصاد لا يبني دولة، بل يرسخ سلطات الأمر الواقع.
في كل تجارب الدول الخارجة من الحروب، كان العامل الحاسم في التعافي هو قدرة الإدارة المدنية على العمل قبل أن تتشكل الحكومات السياسية. فالموظف المهني الذي يدير سجلات الأراضي، أو يشرف على توزيع الكهرباء، أو ينظم حركة النقل، يمارس دورًا أكثر تأثيرًا من أي زعيم سياسي في اللحظة المباشرة بعد النزاعات. والسودان اليوم يحتاج إلى هذا النمط من العمل المؤسسي: جهاز إداري مستقل، محايد، غير مرتبط بصراع القوى، ولا يتبدل مع تغيّر الحكومات. وهو أمر ممكن نظريًا، لكنه يصطدم عمليًا بثلاثة عوائق مركزية: سيطرة السلاح، تغوّل السياسة على الخدمة العامة، وغياب الإرادة الجادة للإصلاح.
هنا يظهر البعد الاستقصائي في قراءة الأزمة: لماذا لم يصبح الإصلاح الإداري أولوية رغم خطورة الوضع؟ المعلومات المتداولة من داخل مؤسسات الدولة والمنظمات الدولية تشير إلى أن أغلب خطط الإصلاح التي طُرحت في السنوات الماضية أُجهضت بسبب مقاومة شبكات نفوذ داخلية تستفيد من الفوضى. فغياب الإدارة المدنية المؤسسة يفتح الباب أمام الجبايات غير القانونية التي تغذي بعض المجموعات، ويجعل الأنشطة الاقتصادية بلا رقابة، ويوفر مساحة لصفقات الذهب والتهريب، ويُضعف الرقابة على الموارد العامة. وفي مثل هذا المناخ لا يمكن لأي جهاز إداري أن يعمل بكفاءة أو استقلال.
لكن، في المقابل، تتزايد مؤشرات تشير إلى أن المزاج العام داخل السودان بات يميل نحو فكرة “الدولة المدنية المؤسسية” باعتبارها الطريق الوحيد للخروج. المواطن يرى يوميًا كيف تتوقف حياته حين تتوقف الخدمات، وكيف يزداد الفقر حين يتعطل السوق أو يُغلق طريق أو تتدهور الكهرباء. ومع طول الحرب، أصبح الناس أقل اقتناعًا بالشعارات السياسية، وأكثر واقعية في مطالبهم: يريدون مستشفى يعمل، مدرسة مفتوحة، ماءً، كهرباء، قانونًا واضحًا، وسوقًا بلا جبايات. وهذه كلها وظائف الإدارة المدنية، لا وظيفة الجيش ولا المليشيات ولا القوى السياسية.
الفرصة الآن—رغم قسوة الظروف—تكمن في أن البلاد وصلت إلى مرحلة الانهيار التي تجعل أي خطة إصلاح جريئة أقل مقاومة من السابق. فالقوى العسكرية التي كانت تعتبر إدارة الدولة امتدادًا لسلطتها اكتشفت أنها غير قادرة على إدارة بلد معقد، والقوى السياسية التي تنازعت على السلطة اكتشفت أن السلطة بلا مؤسسات لا قيمة لها، والمجتمع الدولي لن يضخ أي دعم في بيئة غير مستقرة إداريًا. لذلك يمكن القول إن الطريق أصبح مهيأ أكثر من أي وقت مضى لإطلاق مشروع وطني شامل يعيد تأسيس الإدارة المدنية.
هذا المشروع لا يجب أن يكون مجرد خطة تقنية لإعادة هيكلة الوزارات، بل رؤية متكاملة تعيد تعريف مفهوم الدولة: دولة تحكم بالقانون لا بالتوجيهات، وتدار عبر مؤسسات لا عبر نفوذ الأفراد، وتعمل لمصلحة المواطن لا لمصلحة الأطراف المسلحة. وإذا نجح السودان في ذلك، فإن الطريق نحو التعافي الاقتصادي سيبدأ فورًا، لأن الاستثمار لن يأتي إلا حين يتوفر إطار إداري مستقر، والقروض لن تُصرف إلا حين توجد مؤسسات قادرة على إدارتها، والموارد لن تُستثمر إلا في ظل شفافية ومساءلة.
إن مستقبل السودان—وهو مستقبل لا يزال ممكنًا رغم كل شيء—لن يُبنى في ساحات القتال، بل في مكاتب الإدارة العامة. هناك فقط يمكن استعادة الدولة، ويمكن بناء اقتصاد منتج، ويمكن للمواطن أن يشعر بأن بلده لم يعد ساحة للفوضى، بل مشروعًا وطنيًا يستحق الدفاع عنه. الإدارة المدنية المؤسسية ليست خيارًا سياسيًا بين خيارات، بل هي الطريق الوحيد الذي يمنح السودان حقه في الحياة من جديد.




