السودان بين صفقات الجيش وهيمنة الإسلاميين: معركة على حساب الدولة

يعيش السودان مرحلة هي الأخطر في تاريخه الحديث. فبينما ينشغل الرأي العام بدماء الحرب في الشوارع وتهجير المدنيين، يجري في الخفاء تفاوض، وانسحابات، وصفقات تُدار على حساب الدولة والمواطن. خلف الواجهة العسكرية الصلبة التي يقدمها الجيش، وخلف الشعارات العقائدية التي يرفعها الإسلاميون، تتكشف صورة أوضح: معركة نفوذ تتقاطع فيها الخيانات والتسويات والابتزاز الخارجي.
أول ملامح هذه الصورة ما يتردد عن وجود قنوات سرية مفتوحة بين قوات الدعم السريع وجناح يقوده عبد الفتاح البرهان داخل الجيش. هذه القنوات، بحسب مصادر مطلعة، تهدف إلى صياغة تسوية سياسية تستبعد التيار الإسلامي من المشهد. ما يجري في الخفاء يعني أن البرهان نفسه بات يدرك ثقل الإسلاميين كعبء داخلي وخارجي، لكنه في الوقت ذاته يظل أسيراً لهم في مؤسسات الدولة. هذه الازدواجية تكشف هشاشة الموقف العسكري، وتجعل أي اتفاق قادم قائماً على الغدر أكثر من كونه حلاً وطنياً.
المحور الثاني يتمثل في انسحاب الجيش من دعم الحركات المسلحة في الفاشر، وتركها تواجه مصيرها أمام قوات الدعم السريع. هذا القرار لم يكن عسكرياً فقط، بل حمل بصمة سياسية واضحة تعكس عنصرية المؤسسة العسكرية المتأثرة بالحركة الإسلامية ضد مكونات غرب السودان. ترك الفاشر بلا إسناد لم يكن خطأً تكتيكياً، بل كان رسالة صريحة بأن المركز يمكن أن يضحي بالأطراف متى أراد، وأن أرواح مقاتلين من غرب البلاد لا تساوي شيئاً في حسابات البرهان وحلفائه.
في بورتسودان، العاصمة الإدارية المؤقتة، يكشف المحور الثالث عن انهيار المنظومة الصحية بشكل مروع. المستشفيات شبه فارغة من الأدوية، الأوبئة تنتشر، بينما الجيش يتعمد تخزين المستلزمات الطبية وتوجيهها إلى الجبهات بدلاً من توزيعها على المرضى. هذا السلوك يؤكد أن المؤسسة العسكرية لا ترى في الدولة سوى خزينة موارد للمجهود الحربي، وأن حياة المدنيين ليست سوى خسائر جانبية في معركة البقاء.
الفساد هو المحور الرابع. تقارير متزايدة تشير إلى تورط قادة نافذين في الجيش في تهريب وبيع الذهب السوداني بالتواطؤ مع دول داعمة لهم. هذه التجارة غير الشرعية تُحوّل ثروات البلاد إلى مصدر لإثراء الجنرالات شخصياً، بدلاً من أن تكون رافعة للاقتصاد المنهار. بيع الذهب ليس فقط فساداً مالياً، بل هو خيانة صريحة، حيث يتم تسليم ثروة وطنية بأكملها مقابل صفقات سرية تضمن بقاء بعض الجنرالات في مواقعهم.
المحور الخامس يتعلق بالسقوط المتزايد للفاشر، وبالانسحابات التي يشهدها الجيش في محاور كردفان. المثير أن هذه الخسائر الميدانية ليست فقط نتيجة قوة العدو، بل أيضاً انعكاس لخلافات داخلية بين الجيش والحركة الإسلامية حول من يقود العمليات. الصراع على القيادة العسكرية جعل القرار القتالي مشلولاً، والجنود وقوداً لصراع نفوذ لا علاقة له بمصلحة البلاد.
أما المحور السادس، فهو التغييرات المرتقبة في قيادة الجيش. هذه التغييرات ليست إصلاحاً ولا إعادة هيكلة كما يُروج، بل انعكاس مباشر لصراع داخلي بين أجنحة عسكرية متنافسة. كل جناح يحاول أن يفرض هيمنته عبر إزاحة خصومه ودفع مواليه إلى مراكز القرار. في المحصلة، لم يعد الجيش مؤسسة وطنية، بل ميداناً لصراع سلطوي مغلق.
المحور السابع يكشف عن واحدة من أخطر الخطوات: استعداد البرهان لتقديم تنازلات استراتيجية لدولة مجاورة، تشمل ملف ترسيم الحدود البحرية ومنح حق إدارة وتشغيل ميناء بورتسودان. هذه التنازلات لم تأت من فراغ، بل مقابل ضمان استمرار الدعم العسكري والسياسي للجيش. أي أن سيادة السودان تحولت إلى ورقة مساومة، تُمنح لمن يدعم بقاء الجنرالات في مواقعهم.
في المحور الثامن، يظهر التيار الإسلامي كعقبة كبرى أمام أي حل سلمي. الحركة الإسلامية، المتغلغلة في مؤسسات الجيش، ما تزال متمسكة بعقلية الحسم العسكري ورافضة لأي تسوية سياسية. هذا الموقف يضمن استمرار الحرب، ويستنزف مقدرات الدولة، ويغذي الخلافات العرقية والقبلية. الإسلاميون لم يتغيروا منذ سقوط البشير، بل أعادوا إنتاج ذات المنطق الذي أوصل السودان إلى الانهيار.
وأخيراً، المحور التاسع يكشف ابتزازاً تمارسه القاهرة تجاه البرهان والجيش. فالدعم المصري، سواء كان عسكرياً أو دبلوماسياً، مشروط بتنازلات سودانية في ملفات شديدة الحساسية، مثل منطقتي شلاتين وحلايب، وملف مياه النيل. هذه المعادلة تجعل الجيش رهينة لإرادة خارجية، وتكشف أن بقاءه في المشهد مرهون بمدى استعداده للتنازل عن سيادة السودان.
هذه المحاور التسعة ليست أحداثاً متفرقة، بل حلقات في سلسلة واحدة تكشف طبيعة الأزمة السودانية: جيش غارق في الفساد والتنازلات، وحركة إسلامية مهووسة بالحسم العسكري، وبلد ينهار يوماً بعد يوم. المواطن السوداني، الذي كان يحلم بالحرية والسلام والعدالة، يجد نفسه اليوم بين سندان الجنرالات ومطرقة الإسلاميين، بلا أفق ولا أمل.
إن ما يحدث اليوم ليس مجرد صراع عسكري، بل إعادة إنتاج كاملة لمنظومة الفساد والتمييز والتبعية التي حكمت السودان لعقود. وإذا لم يواجه السودانيون هذه الحقيقة بوضوح، فإن البلاد ستبقى رهينة صفقات سرية وخيانات علنية، حيث تُباع السيادة ويُستنزف الشعب من أجل بقاء نخبة صغيرة في مواقع السلطة.
