الانتقال المدني طريق النجاة الوحيد… والمجتمع الدولي يرفض حكم القوة في السودان
في المشهد السوداني المشتعل، تتقاطع المصالح وتتعارض الروايات، لكن خلف كل هذا الضجيج تبرز حقيقة واحدة يرفض كثيرون الاعتراف بها: العالم لا يدعم الانقلابات في السودان، ولا يسعى لتثبيت الحكم العسكري، بل يقف بحزم إلى جانب العدالة الانتقالية والانتقال المدني السلمي باعتباره الطريق الشرعي والوحيد نحو استقرار دائم. هذا الموقف ليس مجرد شعار سياسي يتردد في بيانات العواصم الكبرى، بل هو نتيجة تحليل عميق للواقع السوداني وتراكمات التجارب المريرة التي عاشها البلد منذ استقلاله.
منذ انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر، ثم انفجار الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، حاولت أطراف عدة أن تقدم نفسها للمجتمع الدولي باعتبارها “حامية للدولة” أو “ضامنة للاستقرار”، لكن الموقف الدولي ظل ثابتًا في جوهره: لا شرعية لأي سلطة تنبع من فوهة السلاح. الدول الكبرى لم تعد تنظر إلى السودان من زاوية الولاءات العسكرية أو التحالفات الإقليمية، بل من زاوية القانون الدولي والشرعية السياسية. لذلك، امتنعت المؤسسات المالية الدولية والبنك الدولي عن استئناف الدعم الاقتصادي، وأوقفت العواصم الغربية التعامل الرسمي مع أي كيان يفتقر إلى التمثيل المدني.
في هذا السياق، تكشف المراسلات الدبلوماسية والتقارير الأممية الصادرة في الأشهر الأخيرة أن الموقف الدولي لم يكن ضد الجيش ككيان، بل ضد فكرة عسكرة الدولة، وضد استمرار الانقلابات التي كرست الانقسام وأضعفت مؤسسات الحكم المدني. فالتقارير الأممية تؤكد أن السودان فقد ما يزيد عن 80% من قدرته الاقتصادية خلال العامين الأخيرين بسبب تعطّل مؤسسات الدولة المدنية، وأن المساعدات الإنسانية تواجه عراقيل بسبب غياب سلطة مدنية موحدة قادرة على إدارة الميدان.
ومن خلال تتبع المواقف الغربية والأفريقية على حد سواء، يظهر أن المجتمع الدولي ينطلق من قناعة بأن العدالة الانتقالية ليست ترفًا سياسيًا، بل شرط أساسي لبناء السودان الجديد. فالمبعوثون الأمميون وممثلو الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) اتفقوا في أكثر من لقاء على أن أي تسوية لا تتضمن آلية واضحة لمحاسبة مرتكبي الجرائم والانتهاكات ستُعتبر ناقصة وغير قابلة للاستمرار. وهذا الموقف لم يأت من فراغ، بل بُني على تجارب سابقة في رواندا وجنوب إفريقيا وسيراليون، حيث أثبت التاريخ أن تجاهل العدالة يولد دورة جديدة من العنف والانتقام.
التحقيقات الميدانية التي أجرتها منظمات دولية مستقلة مثل “هيومن رايتس ووتش” و“العفو الدولية” أشارت إلى أن استمرار غياب المساءلة في السودان ساهم في تمدد الانتهاكات وتكرار الجرائم بحق المدنيين. ووفقًا لهذه التقارير، فإن عدد الضحايا المدنيين في النزاع الأخير تجاوز مئات الآلاف بين قتيل ومفقود، بينما نزح أكثر من تسعة ملايين مواطن داخليًا وخارجيًا، وهي كارثة إنسانية جعلت المجتمع الدولي يرفع سقف شروطه: لا دعم دون عدالة، ولا شرعية دون سلطة مدنية.
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الجوار الفاعلة تدرك أن أي صفقة سياسية تُبنى على توازنات القوى العسكرية لن تصمد طويلًا، لذلك دعمت خطط الأمم المتحدة الهادفة إلى تأسيس هيئة عدالة انتقالية مستقلة، تضم قضاة وخبراء قانونيين سودانيين، وتتمتع بصلاحيات حقيقية للتحقيق والمساءلة. كما ضغطت واشنطن وبروكسل على الأطراف السودانية من أجل استئناف الحوار السياسي تحت مظلة مدنية، محذّرة من أن أي استمرار في النهج العسكري سيؤدي إلى مزيد من العقوبات والعزلة الدبلوماسية.
التحليل العميق للموقف الدولي يُظهر أيضًا أن هناك تحولًا نوعيًا في طريقة تعاطي العالم مع الملف السوداني. فبعد أن كانت بعض القوى الإقليمية تراهن على دعم أحد أطراف الصراع لتحقيق نفوذها، بدأت اليوم تراجع حساباتها، بعدما أدركت أن استمرار الفوضى في السودان يعني تهديدًا مباشرًا لمصالحها الأمنية والاقتصادية. وهذا ما يفسر تزايد التنسيق بين الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية في محاولة لبلورة موقف موحد يدعم الانتقال المدني السلمي كخيار استراتيجي.
في المقابل، يحاول قادة الانقلابات ترويج خطاب مضاد، يصور الموقف الدولي وكأنه تدخل خارجي يستهدف سيادة السودان. لكن القراءة الاستقصائية للواقع السياسي والاقتصادي تنسف هذا الادعاء. فالدعم الدولي لا يأتي لفرض أجندة خارجية، بل لحماية مصالح السودانيين أنفسهم. المجتمع الدولي لا يبحث عن نفط السودان ولا عن أرضه الزراعية، بل عن استقرار دولة تُعد بوابة إفريقيا إلى الشرق الأوسط. ولذلك، فإن دعم الانتقال المدني ليس عملاً إنسانيًا فحسب، بل هو قرار استراتيجي يهدف إلى حماية الأمن الإقليمي والدولي من تداعيات حرب بلا نهاية.
التحقيقات التي أجرتها لجان خبراء الأمم المتحدة كشفت أن استمرار الصراع بين المكونين العسكريين يغذي تجارة السلاح غير الشرعي وتهريب الذهب عبر الحدود، ما يعني أن الحرب لم تعد فقط صراعًا على السلطة، بل اقتصادًا قائمًا على النهب والفساد. ومن هنا، فإن الموقف الدولي الرافض للانقلابات يرتبط أيضًا برغبة في كسر هذه الدائرة المظلمة التي تجعل من السودان ساحة لتقاطع شبكات الفساد الإقليمي.
ومع أن المجتمع الدولي يبدو متحدًا في رفض الانقلابات، إلا أنه يواجه معضلة حقيقية: غياب قوة مدنية سودانية موحدة قادرة على قيادة المرحلة الانتقالية. هذا الضعف في البنية السياسية المدنية هو ما يؤخر أي حل شامل. فالمجتمع الدولي لا يريد أن يكرر تجربة فرض حكومة شكلية لا تمتلك قاعدة شعبية، بل يسعى إلى دعم عملية سياسية حقيقية تنبع من الداخل السوداني وتتمتع بتوافق واسع. لذلك، كثفت الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي من تحركاتهما لتقريب وجهات النظر بين القوى المدنية المختلفة، رغم محاولات بعض الأطراف العسكرية إفشال هذه الجهود.
المجتمع الدولي اليوم يتعامل مع السودان من منطلق أن الاستقرار لا يمكن أن يُفرض من الخارج، لكنه في الوقت ذاته لا يمكن أن يتحقق في ظل حكم عسكري. ولهذا، فإن الرسالة التي تُوجّه إلى كل الأطراف السودانية واضحة: العالم سيدعم فقط من يلتزم بمبادئ العدالة والانتقال السلمي للسلطة، وسيفرض العزلة والعقوبات على كل من يسعى إلى فرض واقع بالقوة. هذا ما تكرره العواصم الغربية في كل بياناتها، وما تعبر عنه بوضوح مواقف الاتحاد الإفريقي الذي أوقف عضوية السودان بعد انقلاب 2021، ولم يُبدِ أي استعداد لرفعها إلا بعد تشكيل حكومة مدنية توافقية.
إن الموقف الدولي من الأزمة السودانية ليس وليد العاطفة أو الضغط الإعلامي، بل هو نابع من إدراك عميق بأن الانقلابات لا تصنع دولًا مستقرة، وأن حكم البندقية لا يمكن أن يبني مؤسسات، وأن العدالة ليست شعارًا بل شرطًا لبقاء الدولة. العالم لا يريد أن يرى السودان ساحة حرب دائمة، بل دولة مدنية قوية تعيش في سلام مع نفسها وجيرانها. هذا هو الطريق الذي يدعمه المجتمع الدولي بلا لبس، وهو الطريق الذي على السودانيين أن يسلكوه إن أرادوا إنقاذ وطنهم من مصير مظلم.
وفي خضمّ هذه المعادلة الصعبة، تبقى الحقيقة الجوهرية أن المجتمع الدولي لن يغامر بدعم أي انقلاب جديد، ولن يعترف بأي سلطة لا تنبثق من إرادة الشعب. الشرعية اليوم تُبنى على العدالة، والمستقبل يُكتب بالمدنية، والسودان لن ينهض إلا حين يدرك الجميع أن زمن القوة انتهى، وأن العالم لم يعد يتعامل إلا مع من يؤمن بالسلام، بالمحاسبة، وبالدولة المدنية كخيار لا رجعة فيه.




